بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- قفز مصطلح “القوة الناعمة” إلى سطح الأمواج الهائجة للنزاع حول أوكرانيا بين أمريكا والغرب وبين روسيا.
ولما كان المفكر الأمريكي الذي ذاعت شهرته على مستوى العالم، “جوزيف ناي” هو أول من صك تعبير القوة الناعمة عام 1990، فكان من المهم قراءة متأنية لما كتبه في مقالين متتابعين عام 2022، وهو يطرح رؤيته عن حل أزمة حرب أوكرانيا.
ناي يشرح أن مكونات القوة الناعمة تعني امتلاك القدرة على تحقيق أهداف السياسة الخارجية، بما تعنيه من استخدام ما تمثله تلك القدرة من جاذبيته لدى الآخرين، وليس عن طريق الإرغام والإجبار. وأنت بالقوة الناعمة تلك تستطيع أن تجذبهم لفعل ما تريده، وليس إرغامهم على فعل ما لا يريدون.
في مقاله الأول بعنوان “القوة الناعمة بعد أوكرانيا.. الحرب لا تزال مشتعلة ولا أحد يعرف متى ستنتهي”، يقول ناي إن الزعماء السياسيين العقلانيين كثيراً ما فهموا أن قيمك ومبادئك يمكن أن تزودك بالقوة، في حالة ما إذا أردت دفع خصمك لأن يفعل ما لم يكن يريد أن يفعله.
وجاء مقاله الثاني بعنوان “ما الذي حدث للقوة الناعمة”، وهو يتساءل فيه عما إذا كانت هناك وسيلة لإنهاء كابوس أزمة أوكرانيا وبسرعة؟. ويتساءل هل الفرصة متاحة أمام الصين لتلعب هذا الدور؟.. وهو وإن كان يستبعد ذلك فوراً، إلا أنه يرى أن تلك فرصة قد تكون متاحة في وقت ما.
ناي يربط المقالين بمفهومه المعروف مسبقاً عن القوة الناعمة. فهو اعتبرها الوجه الآخر للقوة بمعناها التقليدي، كوسيلة للتأثير على سلوك الآخرين. وأن تستطيع بالقوة الناعمة أن تستخلص منهم ما تريده. والقوة الناعمة حسب مفهومه، تعني جذب الطرف الآخر، باستخدامك مكوناتها الناعمة مثل جاذبية الثقافة بكافة مكوناتها.. أدبية، وفنية، وإبداع إنتاجي ينتشر في العالم، حتى ولو كان في صورة ملابس الجينز، أو سلاسل المأكولات مثل ماكدونالد وغيرها. وجميعها على اختلافها كانت تمثل في وقت من الأوقات مركز الإلهام بقوته الجاذبة للآخرين.
ويستخلص من كل ذلك الوضع الراهن للحرب في أوكرانيا، بقوله إذا كنت أريد كقوة كبرى أن أجعلك تقبل ما أريده، فليس مطلوباً أن أرغمك على فعل ما لا تريده. وتلك هي نفس صورة الحرب الجارية الآن.
هذه المفاهيم لم تكن بعيدة عما جرى في أواخر ثمانينات الماضي، عندما لاحظ خبراء الاستراتيجية أن القوة الأمريكية تتراجع. وهو ما سجلته مجموعة من الخبراء شكلها مركز الدراسات الدولية والأمنية بتنسيق مع البروفسور ريتشارد هاركنت أستاذ العلوم السياسية بجامعة سينسيناتى.
وهو ما رد عليه جوزيف ناي مؤكداً قدرة القوة الناعمة على تحقيق أهداف السياسة الخارجية عن طريق جاذبيتها، وليس عن طريق إجبار الآخرين. وأن توسيع نطاق ما تتضمنه القوة الناعمة من وسائل، يمكن أن يعوض الهبوط في التفوق العسكري والاقتصادي.
وفى عام 1996 تحرك ناي خطوة أبعد من ذلك، في مقالة بال “فورين أفيرز”، حين قال إن اللجوء إلى الاستراتيجية الذكية، يمكّن أمريكا من زيادة قوتها الكلية بالنسبة لبقية العالم.
وتستمد أفكار جوزيف ناي أهميتها من الدويّ الذي يحدثه صداها داخل مؤسسات السياسة الخارجية، والعسكرية الأمريكية وهو ما سبق حدوثه من وضع نظرياته محل الدراسة من جانب صناع القرار السياسي.
إن الأفكار التي عرضها أكثر من مرة جوزيف ناي، باعتباره من أبرز المفكرين المهتمين بالاستراتيجية في السياسة الخارجية، والتي صاغ لها من وجهة نظره صورة تحت مسمى القوة الناعمة، لا ترى فائدة من التصعيد في المواجهة العسكرية، والضغوط الاقتصادية والنفسية، وهو ما تمارسه دول في التعامل مع حرب أوكرانيا، والأزمة مع روسيا. وفى تشخيصه لتلك الأزمة الملتهبة فهو يرى أن اللغة التي استخدمت من جانب أمريكا والغرب عامة، وجاءت على ألسنة مسؤولين عسكريين وسياسيين كبار، بعبارات منها إذلال روسيا، وإننا نريد روسيا ضعيفة، قد جانبها التوفيق. منبهاً إلى أن روسيا دولة كانت لها مكانتها التاريخية كقوة عظمى، وهو أمر مستحكم بقوة في وجدان شعبها، ويصعب عليه تقبل ذلك. ولو حدث مثل هذا التكالب على مكانة روسيا وشعبها، لحدثت مأساة تطول الجميع، ولا تقتصر على روسيا وحدها.
ويعيد جوزيف ناي تأكيده بأن نفوذ وتأثير الدولة لا يتحقق إلا عن طريق قدرتها على أن تكون مركز جذب للآخرين، وسيظل هذا المعنى هو المكون الرئيسي والأهم لسياستنا في العالم.