بقلم: عادل درويش – صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم- تغيرات تسعة أشهر في بريطانيا انتهت بزوبعة هزت حزب المحافظين الذي حكم لأكثر من عقد (خمس سنوات في ائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار، وسبع سنوات بأغلبية برلمانية في ثلاثة انتخابات عامة)، أثارت تساؤلات مراسلي الشبكات الأجنبية، خصوصاً من بلدان الأنظمة الجمهورية، قليلة الخبرة بالنظام البرلماني، ناهيك عن خصوصية تقاليد وممارسات وستمنستر بين عشرات من البلدان التي تتغير حكوماتها بانتخابات المجالس التشريعية.
الأيام الماضية كانت الأكثر طولاً في مجلس العموم، بسبب سرعة التغيرات التي لم أشهد لها مثيلاً طوال قرابة ربع قرن من العمل في وستمنستر، وأكثر من ضعفها في العمل الصحافي. فقد تغير ثلاثة رؤساء حكومة في داوننغ ستريت في خمسين يوماً، وأفسدت فرصة إجازة الصيف بمناظرات اختيار زعيم جديد للحزب الحاكم، وبالتالي رئيس حكومة، على المشهد السياسي أثناء العطلة السنوية للبرلمان.
مراسلو شبكات اللغة العربية نيابة عن متفرجيهم يبدون قلقاً على حال حزب المحافظين، ويخشون – مثلما تشير استطلاعات الرأي في الأسابيع الأخيرة – فقدان الحزب العريق (الأكثر نجاحاً في الديمقراطيات البرلمانية لقرنين) للانتخابات المقبلة بعد عامين، والانتهاء بحكومة عمالية اشتراكية، أو الأسوأ، برلمان معلق وحكومة ائتلافية بغير المحافظين.
مراسلو هذه الشبكات لا يفضلون حزباً على آخر إعجاباً به، كنجوم السينما، أو كمشجعي الأندية الرياضية، أو التزاماً فكرياً بآيدولوجيته، بل لسياسة الحزب الاقتصادية في أغلب الأحوال وتأثيرها على ما يرونه مصالح زبائنهم (أي المتفرجين والقراء) مباشرة أو غير مباشرة بتجربة سنوات طويلة.
اهتمام مراسلي الشبكات من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، يليها شبه القارة الهندية، ثم الأميركية، بحزب المحافظين بالتحديد، والأزمة التي يعاني منها شعبياً، وراءه الاقتصاد والتجارة والمال من منظور متابعي الشبكات.
على سبيل المثال لا الحصر، تجد حجم الاستثمارات الخليجية (بلدان مجلس التعاون) في بريطانيا في نهاية العام الماضي فاقت 140 مليار جنيه (أكثر من 160 مليار دولار بأسعار الأمس) بزيادة تقارب ثلاثة أضعافها في العقد الأخير، بسبب القوانين والإجراءات الإصلاحية التي تجذب وتسهل الاستثمار في عهد الحكومات المحافظة في هذه الفترة.
ولذا القلق على مصير حزب المحافظين يعكس اهتمام جمهور وقراء هذه الشبكات، لأن أغلبيتهم لها مصالح، مباشرة أو غير مباشرة، أو في صناعات وتجارة ثانوية مرتبطة بالاستثمارات في بريطانيا.
وبالمقابل، تجدهم أقل اهتماماً بالأحزاب الأخرى، أحياناً لأنهم يعرفون أن الآيدولوجية التي تشكل سياستها الاجتماعية والاقتصادية ضارة بمصالح متفرجيهم، مثل الأحزاب الاشتراكية، كالعمال مثلاً، فتاريخياً تهرب الاستثمارات وتزداد المديونية، وترتفع الضرائب في عهد الحكومات العمالية. أو قلة من المراسلين قليلة الاهتمام – التي أحياناً ما تصل حد التجاهل – بأحزاب أخرى لأنها غالباً غير محددة الهوية أو الآيدولوجية الأساسية التي تنعكس في سياستها الاقتصادية أو الاثنين معاً؛ كالديمقراطيين الأحرار مثلاً في الحالة الأولى، أو الحزب القومي الاسكوتلندي في الحالة الثانية. فالأخير مثلاً، إذا استثنينا الهوس العقائدي لزعمائه ونوابه، سواء في البرلمان الاسكوتلندي (هوولي روود) أو في البرلمان الاتحادي في وستمنستر. باستقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة، ستجد أن الحزب ليست له سياسة واضحة محددة المعالم في الاقتصاد والمال، أو شؤون المعيشة الأساسية التي تهم المواطن من صحة وتعليم وإسكان وأمن.
قياس اتجاهات الناخبين اليوم أمر صعب بسبب تأثير منابر التواصل الاجتماعي؛ وبالنسبة للاستثمارات العربية فالأسوأ من خسارة المحافظين ووصول العمال للحكم، هو برلمان معلق يكون فيه المحافظون أقلية عاجزة عن تكوين ائتلاف، (الأغلبية نظرياً 326 مقعداً من جملة 650 مقعداً وعملياً 323 في معظم الأحوال لرفض النواب الجمهوريين من شمال آيرلندا حضور مجلس العموم) – كما حدث عام 2010، حيث كان للمحافظين 306 مقاعد (258 فقط للعمال) فدخلوا في حكومة ائتلافية (2010 – 2015) مع الديمقراطيين الأحرار (فازوا بـ57 مقعداً). أو حتى يكون فيه المحافظون غير قادرين على تكوين حكومة أقلية عمل كحال انتخابات 2017 التي فقد فيها المحافظون بزعامة تريزا ماي (2016 – 2019) أغلبيتهم وفازوا بـ318 مقعداً فقط، واعتمدوا على أصوات الحزب الديمقراطي الوحدوي لآيرلندا الشمالية الذي فاز بعشرة مقاعد. أو مثل الحكومة العمالية الثانية في السبعينات (1974 – 1979) عندما فقدت أغلبيتها بمقعد واحد في انتخابات فرعية في 1977، وتوصلت إلى تحالف (عرف بمعاهدة الأحرار العمالية) مع حزب الأحرار لدعم الحكومة في مناسبات تصويت سحب الثقة التي كان المحافظون يثيرونها.
فتفوق العمال والآخرين على المحافظين في استطلاعات الرأي (والفجوة تضيق منذ تولي ريشي سوناك الزعامة) يصعب ترجمته إلى مقاعد في مجلس العموم، لأن الانتخاب بنظام الدوائر المباشرة وليس القوائم (التمثيل النسبي)، وغالباً قد تتمكن أحزاب أقلية، أغلبيتها من اليسار والآيدولوجيات المتطرفة أو ذات الهدف الواحد من تكوين ائتلاف، يغير شكل السياسة البريطانية. فالديمقراطيون الأحرار والقوميون الاسكوتلنديون والخضر سيصرون على تغيير النظام الانتخابي إلى تمثيل نسبي (وهو أقل ديمقراطية وتمثيلاً وتغيير الأوليجاركية الحاكمة فيه شبه مستحيل كما هو الحال في معظم هذه الأنظمة)، ليضمنوا السيطرة على الحكم وإعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي.
حزب المحافظين تقليدياً ما يعرف بـ”Broad church”، أو هيئة عريضة الاتساع من تيارات مختلفة، ازدادت احتضاناً لشرائح غير تقليدية بعد الانتخابات الأخيرة بتصويت عشرات من الدوائر العمالية السابقة للمحافظين. تيارات الحزب، تاريخياً، تحارب بعضها البعض، وتنشر غسيلها القذر عندما تكون المعارضة ضعيفة، وليست لها مشاريع واضحة بديلة عن سياسة الحكومة. النقطة الأخيرة قد تكون بوصلة النجاة لسفينة المحافظين من العواصف الاقتصادية، والألغام التي بثتها أغلبية مؤسسات وسائل التعبير المنحازة، في مياه الرأي العام، وذلك بشرط أن توجه تيارات الحزب المختلفة الأشرعة كلها باتجاه أفضل الرياح، التي تبدو الآن متعددة التوجهات وبعضها لم يفرد بعد.