بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم- حين أُعلن فوز ليز تراس بزعامة حزب المحافظين البريطاني على خصمها ريشي سوناك في أيلول (سبتمبر) الماضي إثر انتخابات صيفية شارك فيها كل أعضاء الحزب، سلّمت التحليلات، المباشرة والمُلمِّحة، بأن الحزب اليميني العريق المحافظ، هو بالنهاية حزب أبيض ولن يسمح لشخصية تنتمي إلى أعراق أخرى أن تتسلم دفة القيادة، وأن سابقة بلدية لندن التي انتُخب لقيادتها مرتين العمالي الآسيوي المسلم صادق خان لن تتمدد إلى قمم الحزب.
حينها أمكن تجاوز أمر هذا الاحتمال من قبل نُخب الحزب. اختار النواب المحافظون ريشي سوناك، ذا الأصول الهندية، ليخوض السباق ضد تراس بعدما أزاحوا بقية المنافسين. لكن ألسنة السوء تقول إن النُخب كانت تعوّل بثقة على مزاج العامة من الحزب، لا سيما في الداخل والأرياف، لإبعاد الاحتمال الهندوسي، عن زعامة حزب المسيحيين البيض.
بعد سبعة أسابيع على خسارته السباقة، يعود ريشي سوناك، ويكاد يكون محمولاً على الأكتاف نحو القمّة. لم يعد الرجل خياراً على ما بدا، بل حاجة ملحّة أدركها قادة الحزب الكبار لإنقاذ المحافظين من غرق معلن. انقلب مزاج البريطانيين منذ أشهر، وتفاقم في الأسابيع الأخيرة، وباتت استطلاعات الرأي تضع حزب العمال اليساري في المقدمة بنسبة تراوح بين 20 و 30 في المئة عن حزب المحافظين الحاكم في حال حصلت انتخابات عامة.
ارتكب ديفيد كاميرون حماقة الاستفتاء عام 2016 الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ثم ندم واستقال. سقطت خليفته تيريزا ماي عام 2017 تحت الضربات الخبيثة لبوريس جونسون وصحبه ورحلت باكية ناحبة شاكية ما أصابها من ظلم. أتى خليفتها جونسون وهو من عتاة البريكستيين باتفاق ملتبس متخاذل (في قضية بروتوكول إيرلندا الشمالية) مع الأوروبيين لم تكن ماي لتجرؤ أن تقنع المحافظين به. أطاح المحافظون بجونسون في تموز (يوليو) الماضي ليأتوا بليز تراس في أيلول (سبتمبر) الماضي و”زحفوا” بالنهاية للاستسلام لسوناك ابن المهاجر القادم من البنجاب في الهند. وبات على الملك تشارلز الثالث، رأس الكنيسة في البلاد، أن يكّلف هندوسياً برئاسة الوزراء.
يتحمل حزب المحافظين القسط الوافر من أزمته. اختياراته لزعامة الحزب والحرب الداخلية الدائرة بين تياراته وسيطرة الأيديولوجيا على العقل الحزبي منذ البريكست أفقدت الحزب النُضج والحكمة والروية والاتّزان. والأمر لم ينتهِ بعد. عجّل المحافظون في انتخاب سوناك و “دبروا” أمر عدم إخضاعه لتصويت حزبي عام يشمل كل الأعضاء و”تآمروا” مجتمعين للضغط على منافسة سوناك، بيني موردانت، فحرموها من 100 داعم لخوض السباق وأجبروها بالمونة والإقناع على الانسحاب. كل ذلك ليس من أجل حكم رشيد لبريطانيا، وليس من أجل مصلحة البلاد، بل لإنقاذ الحزب وأسياده من الانهيار وحتى الاندثار.
مفاجأة “الحفل” كانت عودة جونسون من بعيد، من إجازته الكاريبية. أوساطه أعلنت عن نيته خوض السباق ثم بالغت في تأكيد حصوله على 100 داعم يُشترط توافرهم لترشحه. وعلى الرغم من أن أقل من خمسين من هؤلاء كُشفت أسماؤهم، إلا أن الإعلام بدا قابلاً بنظرية إمكان كبير لعودته زعيماً إذا ما راح التصويت صوب كل الأعضاء. فقبل أن تستقيل تراس بأيام خرج استطلاع للرأي يكشف أن أغلبية أعضاء الحزب يتمنّون عودته. صحيح أن ماكينة الحزب اشتغلت بضراوة على منع هذا الاحتمال، غير أن الاجتماع الغامض بين جونسون وسوناك ليل الأحد الماضي وضع نقاطاً نهائية على ما حصل يوم الاثنين الماضي.
انسحب جونسون. انسحبت موردانت. لم يعد هناك سباق. أُختير سوناك بالتزكية. وبات الرجل رئيساً لوزراء بريطانيا من دون تصويت شعبي تماماً كما يحصل في كل مرة يطيح الحزب الحاكم في بريطانيا بزعيمه. حصل ذلك في السنوات الأخيرة مع ماي وجونسون قبل أن تمنحهما الانتخابات التشريعية التي فاز بها الحزب (عام 2017 بالنسبة لماي و2019 بالنسبة لجونسون) الشرعية الشعبية الكاملة.
سيكون مبكّراً معرفة من سيقود الحزب والدولة. هل الحزب الذي “دبّر” فرض سوناك سيتحكّم بحراكه وقراراته، أم أن سوناك الذي وجد نفسه “نبياً” وحاجة وحتمية للحزب يكتشف القوة والنفوذ لفرض رؤاه على ماكينة المحافظين المتهالكة؟ حتى بريطانيا تبدو أيضاً مستسلمة لهذا المصير، تعوّل على كفاءات سوناك في دنيا المال والاقتصاد، وعلى سمعته حامياً لاقتصاد البلاد أثناء الجائحة، وعلى شفافية سلوكه حتى في حياته الشخصية على ما كشفه تعاونه الكامل في التحقيق في قضية ضرائب زوجته (أكشاتا مورتي، ابنة الملياردير الهندي نارايانا مورتي).
ريشي سوناك من كبار أصحاب الثروات في بريطانيا (800 مليون دولار). بأعوامه الـ42 هو أصغر رئيس وزراء سناً في تاريخ بريطانيا. كسر الرقم القياسي للعمالي توني بلير الذي كان يبلغ 43 عاماً حين تسلم المنصب عام 1997.
لا نعرف عن كفاءات سوناك سوى ماضيه المصرفي وتخرّجه المعرفي في أوكسفورد البريطانية وستانفورد الأميركية. أما إنجازاته على رأس وزارة الخزينة إبّان الجائحة فاعتمدت على نظرية الذهاب بعيداً في الاقتراض لتمويل اقتصاد شلَّته الجائحة. حينها ابتسم “معلمه” بوريس جونسون للأمر ورعاه وجعل من ذلك الإنجاز إنجازه. غير أن ما فعله سوناك فعلته معظم الاقتصادات الكبرى، ولطالما ردد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حينها شعار “مهما كان الثمن” في الدفاع عن حكومته التي تنقذ اقتصادها بالاقتراض “مهما يكن الثمن”.
وفق تلك المدرسة الاقتصادية أُعيد انتخاب ماكرون رئيساً لبلاده ويُدفَع بسوناك لقيادة بريطانيا. يبقى أن الزمن تغيّر خصوصاً منذ اندلاع حرب أوكرانيا، حيث لم تعد تلك البلدان قادرة على الاستمرار في ترفها الاقتصادي “مهما كان الثمن”.