بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- في الوقت الذي يعاني فيه المناخ مشكلات كارثية تحتاج إلى تضامن وتكافل وحسّ عالٍ بالمسؤولية العالمية المشتركة، يُبقي الأرض مكاناً صالحاً للحياة، ويضمن بقاء النوع الإنساني، بعد التغيّرات الكبيرة التي شهدها المناخ، من ارتفاع في درجة الكوكب، وزيادة منسوب التلوّث الكربوني، وتراجع الموارد المائية في الكثير من البلدان، وتأثير كل ذلك على مجمل مناحي النشاط الإنساني، خصوصاً الأمن الغذائي، والصحة، فإن المناخ السياسي الدولي، يمضي هو الآخر في الاتجاه الكارثي ذاته، مع ارتفاع منسوب السميّة في العلاقات الدولية، التي تجعل من الصعب التكهّن بمسار هذه العلاقات، ومدى قوة الانفجارات التي ستحدثها، وتطرح سؤالاً لا يقل أهمية عن سؤال المناخ، وهو سؤال الاستعداد العالمي للعمل المشترك ضد النتائج الكارثية لارتفاع منسوب السميّة في العلاقات الدولية.
العلاقات الدولية هي بطبيعتها علاقات تحتوي على مستويات من السموم، لكنها في أحوال السلم تكون تحت السيطرة، من أجل تحقيق المصالح المشتركة لمختلف الأطراف، بما يسمح بنشوء علاقات تنافسية وتكاملية في الوقت ذاته، فسوق العمل الدولي، وما ينتج عنه من علاقات سياسية، قائم على العلاقات التبادلية بين الأطراف، التي يفترض أنها تمتلك من العقلانية ما يجعل كل منها يفهم ويتفهّم مصالح الطرف الآخر، كما أن العنف الذي هو أساس، وربما أساس أول، في صناعة التاريخ البشري، يفترض أن يكون التطوّر الكبير في العلاقات الدولية، قد دفع نحو تقنينه، وتحويله من الصيغ المباشرة والبدائية، إلى صيغ غير مباشرة، واستبداله بالقوة الناعمة إلى حد كبير.
منذ تأسيس علم السموم، على يد العالم الكيميائي السويسري باراسيلسوس (1493-1541)، وضعت صيغة كيميائية، تقول إن “كل شيء سمّ، ويوجد سمّ في كل شيء، فقط الجرعة تحدد غير السام”، وينطبق هذا التعريف على العلاقات الدولية بشكل تام، حيث السباق الرئيسي بين الدول العظمى يتمثّل في محاولة كل منها الهيمنة على أكبر قدر من الموارد والأسواق في الوقت نفسه، وإعاقة الخصوم من وضع أيديهم على منابع الموارد، أو التوسّع في الأسواق، لكن الأسواق العالمية لا يمكن أن تعمل بشكل سلس في ظل حروب مستعرة طوال الوقت، ما يجعل من العمل السلمي، لضبط ومعايرة التنافس، هو الوسيلة الوحيدة والأنجح، لضمان عمل الأسواق بشكلٍ طبيعي، وبأقل قدر من المخاطر.
وإذا كان التنافس بين الدول العظمى على الصدارة في سوق العمل الدولي هو كفة الميزان الأولى في العلاقات الدولية، فإن الكفة الثانية هي معايرة حدود التنافس، بما يُبقي ساحة المعركة، أي الأسواق، محصّنة من التدمير، لكن، ليس سهلاً إبقاء هاتين الكفتين في حالة تعادل/ توازن فيما بينهما، فتاريخ البشرية، منذ الثورة الصناعية الأولى (1760- 1840) وحتى اليوم الذي نعيش فيه الثورة الصناعية الرابعة، أي ثورة التقانة والاتصالات، هو سلسلة من الصراعات بين القوى الإمبراطورية، التي انتهى بعضها، تاركاً مكانه لقوى أخرى صاعدة، لكن أحد التغيّرات البارزة في هذا التاريخ هو وضع قواعد دولية، تجعل من مسؤولية الدول العظمى ضمان الأمن والسلم الدوليين، وفق الميثاق المؤسّس للأمم المتحدة.
إن أكبر التهديدات التي تمثّلها السموم لعضوية الإنسان هي إصابة الجهاز العصبي، المسؤول عن تنظيم العمليات الحيوية لجسم الإنسان، وكذلك الأمر، فإن زيادة منسوب السميّة في العلاقات الدولية، من شأنها أن تهدد بتقويض آليات ضبط الصراعات، ما يجعلها عرضة لحالة من الانفلات، ويدفعها نحو تجاوز التقييم العقلاني لإمكانيات تحققها إلى حالة من العبث، فما نشهده اليوم من ارتفاع مستويات التضخم في الاقتصاد العالمي هو نتيجة منطقية لتراجع آليات التعاون الدولي، وتعرّض سلاسل الإمداد الكبرى لأزمات، تخفّض من قدراتها، وتدفع الأسواق إلى حالة من الاضطراب وعدم اليقين.
لا تبدو البشرية اليوم فقط أمام مخاطر تدمير مقوّمات المناخ؛ بل أمام مخاطر تدمير مقوّمات الحياة نفسها، وعكس مسار التقدم البشري إلى مراحل سابقة، حيث يكون العنف بكل أشكاله هو الآلية الوحيدة للعلاقات بين الدول، ومن الواضح أن تطوّر الصراعات الدولية الراهن، يشير إلى حدوث انتكاسة كبرى، فقد أخذت الجرعة السامّة في العلاقات تضرب مراكز التفكير العقلاني، وتحوّل الدول من عقل معني ومسؤول بالحفاظ على الأمن والسلام الدوليين، إلى كتلة عضلات، مهمّتها استعراض ما لديها من قوة، لإخضاع الآخرين، واستعادة منطق الحرب المفتوحة، أي حرب الكل ضد الكل، حيث من المستحيل التكهّن بزمن نهايتها، لكن ما هو مؤكد أنه ما من طرف يمكن أن ينجو من آثارها التدميرية.