بقلم: جان فيرنر مولر
الشرق اليوم- إن ما يقدمه لنا الشعبويون على أنه “أغلبية صامتة” ليس في الأغلب سوى “أقلية صاخبة”، كما في حالتي أنصار ترامب وأنصار بولسونارو، وإذا كان للأقليات كل الحق في أن يُسمع صوتها، فإنه لزامٌ على الأغلبية الفعلية ألا تبقى صامتة عندما تتحول أقلية ما إلى معاداة الديموقراطية واستعمال العنف.
في هذه الآونة التي تسبق انتخابات الرئاسة البرازيلية المقررة الشهر المقبل، يتفنن الرئيس جايير بولسونارو في صياغة نسخته الخاصة من “الكذبة الكبرى” التي اختلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وهي، الادعاء بأن خسارته في صناديق الاقتراع لن تكون إلا بطريق التلاعب والتزوير، وقد يكتفي من يتبنون هذا التكتيك من شاغلي المناصب في حال خسارتهم برفض الاعتراف بالهزيمة ثم يغادرون المنصب في هدوء؛ أو ربما تصرفوا على نحو أشد خطراً، فيحاولون إثارة حالة من الغضب، بل حتى تحريض أنصارهم على العنف.
لا عجب في اقتداء بولسونارو، الذي وُصف بأنه “ترامب المناطق الاستوائية”، بالرئيس الأمريكي السابق ترامب في هذا الخصوص، فقد بيّن لنا ترامب كيف يمكن لخاسر في الانتخابات أن يظل يشكل قوة نافذة- ولو بطريق الاستبداد والتسلط- في سياسات دولته، غير أن القبول بنتائج الانتخابات يمثل أحد أهم أسس الديموقراطية، وإذا كان رفض نتائج الانتخابات في طريقه لأن يكون اتجاها عالميا جديدا، فيتحتم علينا أن نتساءل عن سبب تقبل عدد كبير للغاية من المواطنين لقادة يصرخون زورا وبهتانا “هذا تزوير”.
يواجه بولسونارو في تلك الانتخابات لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (الشهير بلولا)، وهو رئيس يساري سابق لا يزال يتمتع بشعبية جارفة بين الجماهير، كما تبين من تقدمه الكبير والثابت في استطلاعات الرأي، ورغم احتمالية تقلص الفارق، فمن المتوقع خسارة بولسونارو المنتمي إلى اليمين المتشدد، إلا أنه أمضى سنوات في شحن أنصاره وتحريضهم على ألا يقبلوا بتلك النتيجة.
لعل أكثر ما يُنذر بالشؤم إقدام بولسونارو على زرع الشك في نظام التصويت الإلكتروني الخاص بالبرازيل، المستخدم منذ عام 2000 والمشهود له على نطاق واسع بالمصداقية والكفاءة، فقد حذر، عقب واقعة اقتحام الكابيتول التي شهدتها واشنطن العاصمة في السادس من يناير عام 2021، قائلا: “إن لم يُطبع مجموع أصوات المقترعين في انتخابات 2022، كطريقة لتدقيق ومراجعة الأصوات، فسنجابه مشاكل أكبر من التي وقعت في الولايات المتحدة”، كما أدلى نجله السياسي إدواردو بولسونارو بتصريح ينم عن استحسانه لذلك الحادث عندما أشار إلى أنه كان بإمكان مقتحمي الكابيتول الأمريكيين النجاح في إدراك مبتغاهم لو كانوا أفضل تنظيما وتسليحا.
في الحقيقة، يغلب على الخاسرين من الشعبويين أكثر من غيرهم الصراخ والشكوى من التزوير، لأن أساس جاذبتيهم بالكامل يكمن في الزعم بأنهم، وحدهم دون غيرهم، يمثلون “الشعب الحقيقي” أو “الأغلبية الصامتة”، يستتبع ذلك أن يكون المتنافسون الآخرون على السلطة فاسدين، وأن يكون المواطنون الذين لا يؤيدون الزعيم الشعبوي غير منتمين بحق للشعب على الإطلاق، وبالتالي تفتقر أصواتهم إلى الشرعية، ولا تقتصر الشعبوية على انتقاد النخب “الذي يكون مبررا في أغلب الحالات”، بل إنها تتعدى ذلك لتمثل موقفا مناهضا للتعددية في الأساس، إذ يزعم الشعبويون أنهم أصحاب الصوت المرجعي الوحيد لشعب متجانس كليا قد استحضروه بأنفسهم.
وفقا لهذا المنطق، إذا كان الشعبويون هم الممثلون الحقيقيون الوحيدون للشعب، فإن أي خسارة للانتخابات تعني حتما تورط شخص ما “النخب الليبرالية” في فعل شيء ما “تزوير نتائج التصويت” لتعطيل إرادة الأغلبية المفترضة، ومن أمثلة ذلك ما زعمه فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر الحالي، عقب خسارة حزبه المفاجئة للانتخابات العامة في عام 2002، من “استحالة أن يكون الوطن في صف المعارضة”، كذلك أعلن أندريه مانويل لوبيز أوبرادور، رئيس المكسيك الحالي، بعد فشل محاولته للفوز برئاسة البلاد عام 2006، أن “فوز اليمين مستحيل أخلاقيا”، وبعد حشده “الشعب الحقيقي” (أي أنصاره) في شوارع العاصمة مكسيكو، أعلن أوبرادور حينها نفسه “الرئيس الشرعي للمكسيك”.
من المهم هنا التعرف على كيفية تسبب الخطاب الشعبوي في تفتيت الثقافة السياسية الديموقراطية في أي بلد حتى عندما لا تفضي الانتخابات إلى اقتحامات على غرار أحداث السادس من يناير، حيث يلقن الساسة الشعبويون أنصارهم ألا يثقوا أبدا بالنظام، وأن يفترضوا دوما تلاعب النخب بالنتائج من وراء الكواليس.
لا يعني هذا أن القوانين والعمليات الانتخابية فوق مستوى النقد، ففي الولايات المتحدة على الأخص، يستطيع المرء انتقاد كل شيء، بدايةً من اللوائح المنظمة لتمويل الحملات الانتخابية حتى الصعوبات العملية التي يواجهها المواطنون عند محاولة التصويت (كثير منها نتاج قوانين قُصد بها زيادة صعوبة التصويت)، لكن هناك فرق بين انتقاد السمات غير الديموقراطية للنظام وإعلان النظام برمته غير ديموقراطي لمجرد الخسارة، فمن شأن الأول أن يُقوي الديموقراطية، بينما لا يهدف الأخير إلا إلى تقويضها.
يصبح رفض نتائج الانتخابات أكثر احتمالا عندما تُستقطب فئة ما من الناخبين، نظرا لما يوجده هذا من فرصٍ للمتاجرين بالسياسة أمثال ترامب وبولسونارو، إذ لم يسبق لأي منهما أن ارتبط حقيقةً بحزب سياسي معين، فقد ظل بولسونارو يتنقل بين الأحزاب، بل لم يكن منتميا لحزب على الإطلاق حتى مرور عامين من ولايته؛ أما ترامب، فرغم هيمنته حاليا على الحزب الجمهوري، لم يُظهر أي نوع من الولاء لذلك الحزب (فقد اعتاد أن يكون ديموقراطيا)، ونجح الرجلان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في تكوين أتباعٍ يشبهون الجماعات الدينية، مُستغنين بذلك عن الحاجة إلى جهاز حزبي مناسب، وهو ما كان في الماضي أمرا أساسيا لأي حشد سياسي حقيقي.
وفي ظل غياب أحزاب فعالة بحق، لم يواجه أيٌّ من الرجلين أحدا من داخل المعسكر السياسي ذاته قادرا على كبح جماحه، كما لم يكن لأي منهما فلسفة حاكمة فعلية أو برنامج سياسات، بل دعم كلاهما بشكل أساسي حربا ثقافية متواصلة مبعثها شخصي بحت؛ ولو كان لديهما برنامج حزبي يهتمون به حقا، لتوافر عندهما الاستعداد للتنحي لمنافسين من داخل حزبيهما أقدر على الفوز بالانتخابات المستقبلية، وأقدر بالتالي على تنفيذ البرنامج.
بوسعنا أن نتوقع من مثل هذه الشخصيات المجازفة بكل شيء وإنكار ما يدركون أنه خسارة حقيقية، لكن التبعات الأكبر لتصرفاتهم تكمن في طريقة تفاعل الآخرين، فقد نجح ترامب في استغلال تصديق الكذبة الكبرى ليجعل منها اختبار مصداقية لإثبات أنه جمهوري حقا، وبالتبعية، نجد عددا كبيرا من الجمهوريين المرشحين لعضوية مجلسي الكونغرس والشيوخ ومناصب حكام الولايات يرفضون الإفصاح عما إذا كانوا سيعترفون بهزيمتهم في انتخابات نوفمبر القادم، وفي البرازيل، تظل البولسونارية في موقف الأقلية، لكن بطلها ظل يناور طيلة الفترة الماضية ليجتذب الجيش إلى صفه، كما أنه يتمتع بدعم كبير بين صفوف الشرطة.
إن ما يقدمه لنا الشعبويون على أنه “أغلبية صامتة” ليس في الأغلب سوى “أقلية صاخبة”، كما في حالتي أنصار ترامب وأنصار بولسونارو، وإذا كان للأقليات كل الحق في أن يُسمع صوتها، فإنه لزامٌ على الأغلبية الفعلية ألا تبقى صامتة عندما تتحول أقلية ما لمعاداة الديموقراطية واستعمال العنف.