الشرق اليوم– نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، مقال رأي، يُناقش سعي أطراف الأزمة العراقية للتوافق على حلها، والذي يبدو حتى اللحظة بعيد المنال أو مُستبعد، في حين أن التوافق على حل قد لا يكون مطلباً بحد ذاته، إذا ما كان الخلاف يُعبر عن حالة صحية مشهود لها حتى في الديمقراطيات العريقة، أو بأن يكون غياب ذلك الحل المنشود يُغذي حالة عدم الاستقرار ويحمل في طياته نُذر اضطرابات أوسع.
أدناه نص الورقة التحليلية كما ورد في موقع المركز:
بتعقّد المجالات المدنية والخدمية، كثرت الأزمات المحلية التي تواجه الدول على اختلاف درجة تقدمها وتطورها وبما ينعكس على حالة الاستقرار السياسي – المجتمعي، وهذه الأزمات المحلية أكبر من أن تحلها حتى كبريات الدول الغربية، كالتضخم والتهديدات السيبرانية والإرهاب.
ولو روجت هذه الدول أمام شعوبها إلى سعيها لبلورة حل جذري، فإن ذلك يضع هدف غير قابل للتحقق بما يضعف العزيمة والثقة، ولذلك من المعتاد -لا بل من الضروري – وجود خلافات واختلافات بين الأحزاب السياسية الغربية تجاه القضايا الحساسة ذات الصلة بالواقع المعيشي للمواطن.
فنجد أن الحزبين الرئيسيين في أمريكا، الجمهوري والديمقراطي، منقسمان في العديد من السياسات ومنها الضريبية على سبيل المثال، فالأول يريد تخفيف العبء الضريبي على فئة الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، والثاني يريد التخفيف على ذوي الدخل المتوسط وفرض مزيد من الرسوم على الأغنياء. وعلى افتراض جمد الحزبين نشاطهما إلى حين التوصل إلى حل توافقي، فإن ذلك قد يحمل في طياته تشويه للنظام الضريبي ويحرم الدولة من فرصة الاستفادة من التباينات الضريبية وصلاحية السياسات الضريبية الحزبية في بعض المراحل دون غيرها.
وأيضاً ثمة تباينات في قضايا متصلة بالهوية، فالديمقراطيون يطرحون فكرة التعدد الذي تحافظ فيه المكونات الفرعية على خصوصيتها وتعترف كل هوية فرعية بالآخر تحت مظلة المواطنة القانونية. أما الجمهوريين فيدعون إلى الاندماج وتذويب التباينات الثقافية تحت مظلة القيم الأمريكية المحافظة التي تعلي من مكانة الرجل الأبيض البروتستانتي.
ورغم هذا الانقسام الذي بدا واضحاً في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لم يحدث أن سعى أي من الحزبين إلى العمل لصياغة “حل توافقي” تجاه هذه القضايا، لأن الحل في مثل هكذا حالة يقترب من أن يكون مستحيلاً، وسيتحول السعي نحو الحل إلى حالة جدلية عبثية تشحن البيئة المحلية بما يحد من إمكانية استغلال التباينات لدفع عجلة التقدم بعد تثبيت الاستقرار.
وعليه؛ فالتوافق في المنطق الديمقراطي يكون في الإطار العام والقواعد الناظمة، أما في التفاصيل السياسية والطروحات فلا يجب السعي أو اشتراط التوافق عبر الإجماع بين توجهات الأطراف السياسية، فما يجب هو قبول هذه الخلافات والاختلافات.
فإذا كانت الديمقراطيات الغربية لا تسعى إلى الحلول التي تحقق مفهوم الإجماع، لماذا تشترط الأطراف المتخاصمة في العراق التوصل إلى صيغة مشتركة من الإجماع والتوافق لحل الأزمة المستعصية؟
يكمن تناقض السعي نحو الحل أن كلا الطرفين (الإطار التنسيقي والتيار الصدري) يدركان استحالة التوصل إلى حل جذري مقبول لكليهما، ومع ذلك يكابران ويصرحان ويرهنان التقدم في المسار السياسي بالتوصل إلى ذاك الحل.
ويحمل هذا السعي غير المنطقي مخاطر جمة، لأن الحل صعب المنال، وغيابه يضع الحفاظ على وجودية الدولة والمجتمع “مثار شك”، فكثيراً ما صرّح مسؤولون وسياسيون بأن العراق مهيئ لاضطراب واسع النطاق.
وبدل استمرار السعي نحو حل لا يمكن تحقيقه؛ والذي إن حدث فإنه “هشاً ومؤقتاً”، فيتعين على طرفي النزاع ومن يمارسون جهود الوساطة التفكيرَ ملياً في التعايش مع هذا الصدع السياسي والتكيف مع مخرجاته، فعندما يكون الحل بعيد المنال فمن الرشد السعي نحو إدارة الخلاف وليس حله. بالطبع الحديث عن “الاتفاق على اللاتفاق” بين الأطراف العراقية يواجهه تحديات لا تقل وطأة عن “الاتفاق على الحل”، أبرزها أن الدولة لا تحتكر ممارسة القوة والعنف عبر أدواتها الشرعية، مما يقوّض أهم واجبات ومظاهر الدولة ذات السيادة الفعالة، محلياً وخارجياً.
يضاف إلى ذلك أن البعد الشخصي المتأزم يعرقل من “الاتفاق على اللا اتفاق”، فشخصنة الخلافات والحقد السياسي عبر حوادث الماضي وتغذية المناصرين بخطابات حماسية تجعل من الصعب على القيادات التنازل أمام المناصرين المشحونين برواية ترفض التنازلات، مما يصعب من مهمة تسويق التنازل – إن ارتأى الطرفان ذلك – أمام القواعد.
حيث يصعّد طرف من المطالب ويتعهد بأنه سيحققها رغبةً في تحسين موقعه التفاوضي أملاً في ثني الآخر للتراجع أولاً، والذي – أي الآخر – يمارس الشيء عينه، فيصبح التوصل إلى تسوية تفاوضية محدداً بمن يتراجع أولاً، وهو أمر لا تتقبله الأطراف أو جماهيرها.
إجرائياً، يعد الحوار بحسن نية الوسيلة الأساسية لصياغة “الاتفاق على اللا اتفاق”، بحيث يقود هذا الحوار إلى خارطة طريق مرحلية يتفق فيها كلا الطرفين على استمرار العمل السياسي حتى لو كانت التناقضات جذرية، مع التأكيد على ضرورة احترام سيادة القانون وفرض مؤسسات الدولة الحسمَ في الملفات الشائكة، وإيلاء الأهمية القصوى لتنظيم السلاح المنفلت وعصابات الأسواق السوداء وتفكيك الروابط المصلحية الاقتصادية بين بعض الجماعات المسلحة وهذه العصابات، ومكافحة اقتصاد الميليشيات.
هل الدولة العراقية بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد؟
نظرياً، تنشأ الدول بعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع، وفي الحالة العراقية ما بعد 2003 فإن الدولة تُعاني في ترسيخ معادلة المواطنة، القائمة على الإقرار الطوعي للمجتمع والسلطة بالالتزام بقواعد محددة تضع التزامات وتمنح حقوق لكلا الطرفين.
وتعود صعوبة إقرار هذه المعادلة؛ منذ تعيين التحالف الدولي، حاكم مدني يشرف على مرحلة انتقالية تفوّض عبرها الصلاحيات إلى سلطة سياسية عراقية، لكن السلطة الجديدة لم تستوعب حينذاك التغيرات الهيكلية في البناء السياسي الجديد. وبالتالي ما يجري من اضطرابات في العراق ينبثق من كونه أن الدولة لا تزال في مرحلة البناء ما بعد 2003، وينتظرها مسار طويل لتثبيت مؤسساتها وتحصين فعاليتها، وهي في الوقت نفسه تواجه عمليات معاكِسة مقاوِمة لمسار البناء، ويصعّد الاضطراب الإقليمي والتنافس الدولي من حدة هذه العمليات.
وهنا ينبغي التساؤل عما إذا كان العراق بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعيد ضبط العلاقة بين الكل العراقي على مختلف الصعد، مع التأكيد على أن هذا التجديد ليس مجرد عملية أو إجراء، حيث يضغط الشارع العراقي عبر فئاته الصامتة أو المحتجة من غير التيارين المتناقضين إلى تغيير بنية الدولة بطبقاتها السياسية والتشريعية ويطال حتى بعض مؤسساتها، وهذه المطالب تستهدف العقد الاجتماعي المحدد بالدستور، وهو عقد ملزم لكل أطرافه.
وعليه، تتطلب المصلحة الوطنية العراقية الحذر عند مناقشة القضايا المتصلة بالطبقة السياسية والعقد الاجتماعي، وعدم تصعيد المناقشين اللهجة والخطاب الهجومي، تحوطاً من تمهيد الذهن العراقي للانزلاق نحو اضطراب واسع دون وعي بذلك.