بقلم: عمّار الجندي – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- لم يكد يمضي على رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس في “10 داونينغ ستريت” ثلاثة أسابيع، حتى توسلت صحيفة “ديلي تلغراف” إلى وزير المالية السابق ومنافسها على زعامة حزب المحافظين الحاكم، قائلة: “عد يا ريشي سوناك، تم الصفح عن كل شيء”.
المفارقة أن الصحيفة اليمينية المحافظة التي كانت في مقدمة داعمي تراس خلال حملة انتخابية حملتها إلى قمة السلطة، رأت نفسها مضطرة لنقل البندقية إلى الكتف الثاني بهذه السرعة. وإذا انفضّ داعموها وأصدقاء الأمس عنها، وراحوا يطلبون النجدة من سوناك بعد تنصيبها بثلاثة أسابيع، فأي مستقبل ينتظر تراس، لا سيما أن حزب العمال بات يتقدم بأكثر من 17 نقطة في استطلاعات الرأي والحبل على الجرار؟
يتهالك الاقتصاد مع هبوط سعر الجنيه الإسترليني يوم الجمعة إلى أدنى مستوياته في 37 عاماً (1.0327) وخسارته نحو 5 في المئة من قيمته مقابل الدولار، بسبب سياسات تراس المالية المتهورة. فقد صُمّمت “الموازنة المصغرة” التي أعلنها كواسي كوارتنغ وزير المالية في ذلك اليوم، لإرضاء الأثرياء والشركات الكبرى على حساب الجميع والاقتصاد بخفض غير مسبوق للضرائب منذ 50 عاماً، سيجري تمويله عن طريق استدانة ما يزيد على 45 مليار جنيه إسترليني. وأضرمت الموازنة نيران أزمة لا تزال تتأجج منذ أيام، إذ نسفت ثقة الأسواق المالية بالحكومة، فسارع المتعاملون إلى بيع الجنيه الإسترليني الذي تراجع سعر صرفه من 1.20 إلى 1.03 مقابل الدولار. ومن المرجح ألا يقف نواب الحزب موقف المتفرج حتى يسقط اقتصادهم صريعاً ويحلق التضخم وترتفع أثمان البضائع المستوردة التي يجري تسعيرها بالدولار كالنفط، في خضم أزمة تكلفة المعيشة الطاحنة.
ولن يكون سهلاً حتى على أولئك الذين دعموا حملتها في انتخابات الزعامة بقوة، أن يلزموا الصمت، في الوقت الذي أجبرت الأزمة جهات خارجية مهمة على الدخول على الخط. فقد وجه صندوق النقد الدولي انتقادات قلما غامر بمثلها إلى الموازنة المصغرة، باعتبارها ستقوّض جهود بنك إنكلترا لكبح جماح التضخم المتصاعد وسط أزمة تكلفة معيشة ضاغطة. وسرعان ما حذت حذوه وكالة تصنيف الائتمان “مودي”. وإذ قالت جانيت يللين، وزيرة الخزانة الأميركية، إن بلادها “تراقب التطورات عن كثب” في الولايات المتحدة، فإن سلفها لاري سامرز اعتبر أن الأزمة تدل إلى ارتكاب “عدد من الأخطاء غير المقصودة”. يُذكر أن سوناك حذّر مراراً خلال الحملة الانتخابية من أن خفض الضرائب الذي اتخذت منه محوراً لاستراتيجيتها الاقتصادية، “خطير” ونوع من المغامرة “بجعل كل شيء أسوأ”.
تغصّ وسائل الإعلام البريطانية منذ أيام بالتقارير التي تتهم تراس ووزير ماليتها بالسذاجة وقلة الخبرة، معتبرة أنهما تجاهلا معدل التضخم الذي بلغ 9.9 في المئة وراحا يلعبان “الروليت الروسية” مع الاقتصاد الوطني. ويبدو أنهما اصطدما في الأيام الأخيرة، مع أنه توأم روحها الأيديولوجي، فقد تشاركت وإياه مع مجموعة من عتاة اليمنيين في الحزب الحاكم في كتابة “بريطانيا منزوعة القيد” في 2012 للترويج لرؤية اقتصادية محافظة لاقتصاد السوق.
معروف أن التوتر ساد دائماً علاقة رؤساء الوزراء البريطانيين مع وزراء المالية، الذين ينفردون بالسيطرة على المال العام، الأمر الذي يتيح لهم التأثير في سياسات الحكومة أكثر من جميع الوزراء الآخرين، وعلى نحو يصعب على رئيس الوزراء أن يحدّ منه. وقاد صراع رئيس الحكومة البريطاني مع أهم وزرائه مراراً إلى سقوط الأول، أو هو والثاني. لكن الخلاف في تلك الحالات، لم يحتدم بين ليلة وضحاها من وصول الطرفين إلى القمة، بل استعر على نار خفيفة طويلاً. أما صدام تراس وكوارتنغ، فلا يزال مبكراً للغاية، لا سيما أنهما اشتبكا قبل أن تقضي الحكومة الجديدة أسبوعها الثالث، ما يبشر بمستقبل لا يدعو إلى التفاؤل باستقرار القرار الاقتصادي وسلاسته.
وإذا كانت الوجوه الاقتصادية للأزمة هي الحاضرة حالياً بقوة، فإن الأبعاد السياسية لما يجري، آخذة بالتبلور. تتسابق الصحف على رصد خيبة الأمل والخوف في أوساط نواب حزب المحافظين، وتتناقل الانتقادات اللاذعة لأعضاء حكومات محافظين سابقة، وسط تقارير عن بدء بعض النواب الكتابة إلى “لجنة 1922” المخولة إجراء انتخابات الزعامة، معربين عن رغبتهم بسحب الثقة من تراس.
صحيح أن اللجنة لن تتخذ أي إجراء، ما لم يطلب منها ذلك 15 في المئة من نواب الحزب (نحو 54 نائباً)، وهي نسبة كبيرة قد يستغرق تحقيقها زمناً طويلاً. وصحيح أيضاً أن رحلة الألف الميل تبدأ بخطوة، وقد يكون بوسع النواب الانتقام من زعيمتهم بالتصويت مع حزب العمال في مجلس العموم على مشروع ما، إذا تم تخفيف الضوابط الحزبية. ولعل تراس لم تنسَ الدرس الذي لقّنه النواب المحافظون لسلفها بوريس جونسون حين دعموا مشروع قرار عمالي للتحقيق معه من قبل لجنة الامتيازات البرلمانية في آب (أغسطس). كما تعرف حق المعرفة أنها حلّت ثانياً في الدورة الأولى من انتخابات الزعامة بين نواب الحزب بواقع 113 مقابل 137 صوتاً لمصلحة سوناك، ما يعني أن 244 نائباً (من أصل 357 نائباً) لم يدعموا محاولتها الوصول إلى رأس الهرم. وإذا استلّ هؤلاء، أو بعضهم، خناجرهم لطعنها، لما كان لها فرصة بالنجاة. لكن خوفهم على مقاعدهم البرلمانية هو على الأغلب ما سيدفعهم إلى التروي، من دون التخلي عن اليقظة وتنسيق رد فعل “مناسب” على عبثها هي وكوارتنغ بالاقتصاد.
الاقتصاد لا يحتمل التأجيل. وقد يخفف تعهد كوارتنغ عرض خطة متوسطة المدى للسياسة النقدية في 23 تشرين الثاني (نوفمبر)، من وتيرة سعي النواب وراء الستار إلى تدبير “انقلاب أبيض”. وربما ينجح بنك إنكلترا، الذي رفع سعر الفائدة في 21 أيلول (سبتمبر) الجاري بنصف نقطة مئوية ليصبح 2.25، في التدخل لمنع الأزمة من التفاقم. لكن المشكلة بالنسبة إلى تراس تكمن في استحقاقات أخرى قريبة، أهمها إلغاء بعض بنود البروتوكول الأيرلندي، وهو ما اقترحته في مشروع قانون ينتظر أن يُبتّ أوائل العام المقبل.
والمخيف، نظراً إلى تصلب موقفها حيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومغامرته في أوكرانيا، أن تبحث عن حبل نجاة في ذلك الجزء من القارة الأوروبية، كما فعل سلفها جونسون في مناسبات مختلفة فيما كان وضعه يزادا تأزماً. وقد لا تتردد تراس في مجاراة بوتين الذي ربما قدم لها فرصة ذهبية لقطع الطريق على محاولات إطاحتها من قبل سوناك أو غيره، حين هدّد “جاداً” باستخدام أسلحة نووية في تلك الحرب المجنونة.