بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم– تعرضت القوات الروسية قبل أسبوعين في منطقة خاركيف – أوبلاست الأوكرانية الى انتكاسة جدية، لم تكن الأولى، وإنما شكلت مؤشراً مقلقاً للقيادة الروسية التي كانت تعتقد أن الحرب يمكن أن تُحسم خلال أيامها الأولى بسقوط الحكم في العاصمة كييف، وانتزاع أوكرانيا واستعادتها الى دائرة النفوذ الروسي.
لم تصُحّ حسابات موسكو، فغرقَ الجيش الروسي الذي بلغ عديده في مطلع الحرب أكثر من 180 ألف جندي معززين بمئات الدبابات والآليات المدرعة في مستنقع كبير، ومع الأيام تعاظمت الخسائر البشرية وفي المعدات إلى حد كبير بدا معه أن روسيا غير قادرة على حسم الحرب لصالحها، وأن هذه الحرب المستمرة منذ نحو ثمانية أشهر ستطول كثيراً بحيث أنها ستصبح مكلفة الى حد بعيد بما يذكر بالحرب بعد احتلال القوات السوفياتية أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي، والتي انتهت بانسحابها مهزومة، فسقط بعدها بعامين الاتحاد السوفياتي بأسره وتفكك.
في التجربة الأوكرانية يمكن القول إن حرب الرئيس فلاديمير بوتين فشلت في أيامها الأولى. صار مستحيلاً الانتصار على أوكرانيا الأصغر، لكن المسلحة بشكل جيد من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. أظهرت الحرب نقاط ضعف بنيوية تنخر الجيش الروسي المفترض أن يكون أقله على الورق الجيش الأقوى الثاني في العالم. وإذا به الأقوى نووياً، إنما مستواه كجيش نظامي تقليدي أقل مرتبة بكثير بعدما بان الفارق النوعي بينه وبين الجيوش الغربية، لا سيما في ما يتعلق بنوعية السلاح وتطوره فضلاً عن الأساليب القتالية. أكثر من ذلك لم يكن غريباً أن يلاحظ المراقبون الفارق بين الجندي الأوكراني المتحفز دفاعاً عن أرضه وهويته، والجندي الروسي المفتقد لقضية يقاتل من أجلها.
لقد جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا نتيجة لمحاولة من الكرملين والرئيس بوتين شخصياً لإعادة كتابة التاريخ وفق قراءة مجموعة روسية شوفينية تحيط ببوتين، وهدفها إعادة بناء الإمبراطورية الروسية – السوفياتية بأدوات الحروب الكولونيالية التي تعود إلى القرن التاسع عشر والقائمة على التوسع الجغرافي بالحروب المباشرة وبالاحتلالات، ونفي التاريخ عن شعوب تستهدفها تلك الحروب، وصولاً الى محاولة إلغائها وشطبها بالكامل. لقد ذهب الرئيس الروسي في القرن الحادي والعشرين الى الحرب بعقلية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ذهب الى حرب إلغاء في قلب أوروبا بإمكانات تمكنه من خوض حروب محدودة ومنخفضة الوتيرة، فوقع في فخ حرب عالية الوتيرة ومفتوحة الأفق على مسرح أوكرانيا المدعومة من أغنى وأقوى دول العالم وأكثرها تقدماً. حتى الثروة النفطية والغازية التي تعوم فوقها موسكو لم تسعفها لإتمام الحرب وحسمها، ولن تسعفها.
فعلها الرئيس فلاديمير بوتين وأعلن في خطابه صباح يوم الأربعاء الماضي عن استدعاء قسم من الاحتياط في الجيش، وتنظيم استفتاءات صورية على عجل في أربع مقاطعات أوكرانية يسيطر عليها جيشه بشكل جزئي أو شبه كلي من أجل ضمها الى روسيا الاتحادية، ثم لوّح بالسلاح النووي لحماية الأراضي الروسية. بمعنى آخر، صعد الرئيس بوتين الى حد بعيد ربما لكي يوقف الحرب بسرعة على قاعدة أن يضم الأراضي التي سيطر عليها لغاية اليوم فيشملها بالمظلة النووية أسوة ببقية أراضي الاتحاد الروسي. فمن الواضح أنه غير قادر على إطالة أمد الحرب كثيراً، وهو لا يملك القدرة على ذلك. والقضية لا تتعلق بعدد الجنود بل بنوعية المعدات العسكرية التي يملكها وسوء التدريب، وتخلف التكتيكات العسكرية، وتضعضع سلسلة القيادة وصولاً الى قلب الكرملين نفسه.
وأوضح الرئيس الروسي السابق ديميتري مدفيديف اللصيق ببوتين قبل يومين أن السلاح النووي يمكن أن يُستخدم للدفاع عن الأراضي التي سوف تضم الى الاتحاد الروسي. بمعنى آخر إن روسيا تنظم خاتمة كما صرح رئيسها الأسبوع الماضي على هامش قمة سمرقند لمنظمة شنغهاي، وذلك عندما قال له رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي “إن الزمن ليس للحروب”، فأجاب بوتين: “سوف نفعل ما بوسعنا لإنهاء الأزمة بسرعة”. فهل يعني ذلك أن روسيا تعمل على إنهاء الحرب على قاعدة إرساء أمر واقع محدد بينها وبين الغرب على المسرح الأوكراني؟ ربما هذا هو الهدف، لأن استدعاء 300 ألف رجل للاحتياط لا قيمة له في ظل تردي أوضاع الجيش عموماً، وخصوصاً مع تزايد الدعم العسكري الغربي للجيش الأوكراني حيث أن الجنود الجدد لن يكونوا أكثر حظاً ممن سبقوهم في المرحلة الأولى للحرب.
اذاً نحن أمام معادلة جديدة يحاول الرئيس الروسي المحبط بالتأكيد أن يفرضها. يريد وقف الحرب بأي ثمن. فهو أو قُل جنرالاته يعرفون أن الحرب يستحيل كسبها. أما استخدام السلاح النووي، فهو غير مجدٍ، إذ إن الآخرين يملكون قدرات نووية مماثلة، كما أن أحداً غيره لم يلوّح به. فيما العالم لا يستطيع أن يتقبل استخدام النووي من دون أسباب وجيهة. ربما يريد بوتين أن يفرض معادلة يدخل فيها السلاح النووي لإحداث صدمة في الغرب، وبالتالي وقف الحرب في أسرع وقت. فقد تضرر كثيراً، سواء على الصعيد الشخصي (مصير حكمه في الميزان) أو على صعيد مكانة روسيا الدولية.
السؤال الآن بعدما تنظم الاستفتاءات الصورية وتعلن موسكو عن ضم تلك الأراضي، كيف سيتصرف الغرب؟ هل تواصل أوكرانيا الحرب في تلك المناطق المحتلة التي لن يعترف العالم بضمها مهما فعل بوتين؟ وهل يبقى الغرب متحداً من الناحية العملية خلف أوكرانيا لدعمها في حربها؟ وإلى أي مدى يمكن أن نتخوف من حدوث ضربة نووية روسية رداً على استمرار الحرب في المقاطعات الأربع المسلوخة قريباً؟