بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– يحدث أحياناً أن ينشغل الرأي العام في أمريكا، بالمقارنة بين رئيسه الحالي، وبين رؤساء سبقوه، خاصة حين يتعلق ذلك بإدارة سياسته الخارجية تجاه أوضاع متشابهة. ومن أكثر الرؤساء الذين تناولتهم هذه المقارنة، ريتشارد نيكسون وبيل كلينتون.
وفي ضوء الحيرة التي أحاطت بشعوب العالم واختلاف مواقف الخبراء والمحللين، في الأزمة المستعصية بسبب حرب أوكرانيا، بكل تداعياتها التي أثرت سلباً في الحياة اليومية للشعوب، فإنني اخترت شخصية كلينتون (من الحزب الديمقراطي)، نموذجاً للقياس، لسبب أساسي وهو أنني عشت سنوات في أمريكا، خلال فترة رئاسته، وكنت مراسلاً في البيت الأبيض، ما يتيح للمراسلين فرصاً للاقتراب من المطبخ السياسي للرئيس، وأحياناً كنا نفاجأ بدخول الرئيس قاعة المؤتمرات الصحفية التي كان يدير جلساتها المتحدث الصحفي بالبيت الأبيض. عندئذ تتحول الجلسة إلى محاكمة، أو كما وصفتها، هيلين توماس، كبيرة مراسلي البيت الأبيض، ما يشبه المحاكمة، فهي فرصة للمراسلين للإلحاح على الرئيس ليكشف عن جوانب لم يكن قد أعلن عنها، في سياسته الخارجية.
وبشكل عام، فإن كلينتون كانت تجمعه مع الرؤساء الآخرين، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين، مبادئ ثابتة في الفكر الاستراتيجي، والتي لا تخرج عنها مؤسسات السياسة الخارجية. لكن الملاحظ أن فترة رئاسة كلينتون قد شهدت مواقف تختلف كلية عن مواقف رؤساء آخرين، بل مع أكثرية الرؤساء.
من أول يوم لدخول كلينتون البيت الأبيض ربط نفسه بكونه “واقعياً”، وهو ما كان يمثل ما اتفق عليه بعض الرؤساء، واختلف معه تماماً آخرون.
والواقعية، حسب التفسير الأمريكي، تعني اتخاذ القرار بناء على المصلحة الوطنية، أولاً وأخيراً، وليس بناء على مفاهيم أيديولوجية، أو على حسابات المصالح لأشخاص وجهات، وكيانات لها نفوذ على صناعة القرار.
ولإيضاح هذا التوجه، فإن البيت الأبيض كان أعلن في بدايات رئاسة كلينتون تقريراً بعنوان “بناء السلام في الشرق الأوسط”، يقول:”منذ مجيء كلينتون إلى البيت الأبيض، وقد كرس كل وقته وجهوده لإيجاد سلام شامل ودائم في الشرق الأوسط، بحيث يحقق الأمن لإسرائيل، والرخاء لجيرانها. وإن أمريكا تقف بقوة إلى جانب من يجازفون من أجل السلام”.
بخلاف هذا التوجه العام، فإنني سأرجع إلى بعض تطبيقاته العملية، التي تابعتها بحكم عملي الصحفي هناك، على سبيل المثال، وليس الحصر، ففي أوائل التسعينات، وجدت مؤسسات السياسة الخارجية نفسها في حالة ارتباك، بحثاً عن عدو بديل للعدو السوفييتي السابق، وانشغلت مراكز الفكر السياسي بهذا الموضوع، وضمن ما خرجت به مراكز وثيقة الصلة بالقوى اليهودية الأمريكية، مصطلح “العدو المسلم” بديلاً عن العدو السوفييتي.
وفي مواجهة هذا التفكير، اختار كلينتون مناسبة إلقاء خطابه في افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليحدد الموقف الأمريكي من هذا التيار، وقال في خطابه “لا يمكن ربط الإرهاب بديانة محددة، وإذا كان هناك إرهابيون مسلمون، فهناك أيضاً إرهابيون يهود، وإرهابيون مسيحيون”. ونتيجة لموقفه هذا خمدت جذوره الترويج لعدو مسلم.
التجربة الثانية حين كنت ضمن طاقم مراسلي البيت الأبيض في تغطية القمة الثلاثية بين نتنياهو وياسر عرفات، وبمشاركة من كلينتون في منطقة واي بلانتيشن خارج واشنطن. وكان مسؤولو البيت الأبيض تحدثوا معنا عن أن كلينتون يجهز صياغة لتسوية سياسية برؤية أمريكية خالصة.
في تلك الأيام كشف الإعلام الأمريكي عما وصفه بإعلان نتنياهو الحرب على كلينتون، بحشده حملات إعلامية مكثفة لتشويه صورته بين الأمريكيين، وبعقد مؤتمرات يومية للقوى اليهودية، موضوعها الوحيد العداء لخطة كلينتون للسلام.
وحدث أنني حضرت مؤتمراً نظمه “مركز نيكسون للسلام والحرية” الذي يرأسه جيفري كمب، العضو السابق في مجلس الأمن القومي للرئيس رونالد ريغان، والذي كنت ألتقي معه كثيراً لمناقشات عن خفايا سياسة أمريكا.
كان كلينتون هو المتحدث الرئيسي في هذا المؤتمر، ووصف نفسه بأنه جزء من ائتلاف أنصار الواقعية، من أعضاء الكونغرس، وممن ينتمون إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
والملاحظ أن أدنى نسبة لشعبيته وهي 36% في عام 1994، كانت بسبب الفشل في إصلاح نظام الرعاية الصحية، بينما قفزت نسبة القبول به إلى 61%، في فترة رئاسته الثانية. وبعد سنوات من تركه الرئاسة، في عام 2012، وأثناء انعقاد المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي، فإنه حاز على تأييد 69% من الأصوات، وهو أعلى تقدير مقارنة برؤساء كثيرين سبقوه.