بقلم: سحر محمد
الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، ورقة تحليل سياسات، تسعى من خلاله تحليل السياسة الخارجية الهندية من خلال نموذج الأزمة الأوكرانية، واستشراف مآلات الموقف الهندي من تلك الأزمة عن طريق تناول محددات تلك السياسة (تاريخياً واقتصادياً وعسكرياً وجيوسياسياً)، وعرض التسلسل الزمني لتطور الموقف الهندي من الأزمة الأوكرانية، وما يمكن أن تقدمه تلك الأزمة للهند من فرص، وما قد تفرض عليها من محاذير.
أدناه نص الورقة التحليلية كما ورد في موقع المركز:
تستند السمة العامة للسياسة الخارجية الهندية بشأن الأزمات العالمية، على مبدأ الحياد، ومثلت الأزمة الأوكرانية مثالاً راهناً لهذه السياسة، واختباراً حقيقياً لمبدأ الحياد في سبيل الحفاظ على مصالح الهند واستقلالية قرارها السياسي.
تأتي هذه السياسة في سياق موقع جغرافي مليئ بالتحديات السياسية والاقتصادية، فالهند محاطة بقوتين نوويتين (باكستان، الصين)، واللتان تخُطان مواقف متناقضة على الصعيد العالمي عما تتبعه الهند، المُقربة من الولايات المتحدة.
لكن هذا الموقف من قبل نيودلهي تجاه الأزمة الأوكرانية، تأسس وفق أسس تاريخية، كان لها الدور في خط استراتيجياتها وسياساتها وخريطة تحالفتها، والتي من المهم استيعابها واستعراضها، إلى جانب مُحددات اقتصادية وجيوسياسية راهنة، لفهم أبعاد ومستويات سياسة الحياد الهندي، والتي ستقودنا بطبيعة الحال إلى استشراف مآلات الموقف الهندي من الأزمة الأوكرانية.
أولاً: المحددات التاريخية
منذ اللحظة الأولى لإصدار البرلمان البريطاني قانون “استقلال الهند” في العام 1947، والذي أنهى حقبة الاستعمار البريطاني لها، اتجهت نيودلهي للتأسيس لسياسة خارجية قائمة على مبدأ الحكم الذاتي، ورفض الأحلاف بوصفها تؤثر على قرارها المُستقل.
واكتسبت سياسة الهند مزيداً من الأهمية، بعد أن أصبحت جزءً من حركة عدم الانحياز، وأحد مؤسسيها في العام 1955، والتي بلغ عدد الدول المنتمية لها نحو 116، وكانت حاضرة على مدار عقود في مُعارضة الاستعمار وحصول الدول على سيادتها واستقلالها.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، واتساع المُنافسة بين قطبي النظام الدولي (الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة)، حاولت الهند بناء علاقات مُتوازنة، لكن باستثناء الجوانب النظرية في قواعد سياستها الخارجية، رغب رئيس الوزراء الهندي آنذاك جواهر لال نهرو، في توثيق علاقات بلاده مع الاتحاد السوفييتي، لتفضيله الأفكار الاشتراكية. في المُقابل اتجهت باكستان لتعميق شراكتها مع الولايات المتحدة.
ونظراً للخلاف الحدودي بين الدولتين حول إقليم كشمير، ومساعي بريطانيا ضم باكستان إلى حلف بغداد عام 1954، استشعرت نيودلهي مخاطر العلاقة بين إسلام آباد والغرب، واتجهت بعلاقاتها مع الاتحاد السوفييتي لمستوى الشراكة الاستراتيجية في المجالات العسكرية، ومنها شكل الاتحاد السوفييتي المورد الأول للسلاح الهندي، خاصة بعد الحظر الأمريكي على صادراته من الأسلحة لشبه القارة الهندية خلال حرب كشمير عام 1965.
وتلاشت التجربة الهندية من الحياد، بعد أن لاقت خطوتها في ضم إقليم (جوا)، والجيوب الساحلية الصغيرة المُطلة على بحر العرب (دامان وديو)، وإنهاء السيادة البرتغالية عليها؛ اعتراض الولايات المتحدة والمملكة المُتحدة وفرنسا وتركيا، والذين تقدموا بطلب إلى الأمم المتحدة للمُطالبة بسحب القوات الهندية، قبل أن يلقى اعتراضاً من قبل الاتحاد السوفييتي.
ولأسباب أخرى، تتعلق بالخلاف الصيني مع الاتحاد السوفيتي، بشأن مضامين أيديولوجية حول مفاهيم الشيوعية وتطبيقاتها، وبهزيمة الهند على يد الجيش الصيني عام 1962، فإن العلاقة الهندية السوفيتية، تطورت بتوقيع البلدين “معاهدة السلام والصداقة والتعاون” عام 1971.
وتباعاً لجميع ما ذُكر، تحولت الهند من استراتيجية الحياد نحو استراتيجية المحاور التي استندت على دعم موسكو لنيودلهي، لتحقيق التفوق في قضية كشمير، والتأسيس لمكانتها في جنوب آسيا، ولدور الاتحاد السوفييتي المُتقدم حينذاك في المحافل الدولية، والذي استخدم حق النقد ضد قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن كشمير في أعوام 1957، 1962 و1971، لتنهي بها محاولات التدخل الدولي في الإقليم، في المقابل اكتفت الهند بالصمت إزاء التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان عام 1979.
لكن؛ ثمة لحظة فارقة في مصير العلاقات الهندية السوفييتية، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وهي نقطة أعادت معها الهند صياغة سياستها الخارجية، واستجابت للنظام الدولي ذو القطب الواحد، بأن تقربت في علاقاتها من الولايات المتحدة.
وحققت العلاقات مع الولايات المتحدة، تطورات ملحوظة بعد تصاعد الإرهاب، والذي كان ضمن الأسباب التي غيرت من الموقف الأمريكي تجاه قضية كشمير، من تأييدها للموقف الباكستاني بإجراء استفتاء شعبي لتقرير مصير الإقليم، إلى دعم التفاوض الثنائي حوله بين الجارتين، وفي العام 2008 وقعت الهند على اتفاق للتعاون النووي المدني مع الولايات المتحدة، والذي سمح لها بالدخول إلى النادي النووي العالمي.
بالتوازي، حافظت الهند على علاقاتها مع روسيا الاتحادية، ففي عام 2000 زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الهند ووقعت الدولتين 17 اتفاقية مشتركة لتطوير التعاون بين البلدين، ثم حمل عام 2001 صفقة كُبرى بين البلدين ضمنت السماح للهند بإنتاج 140 طائرة حربية من طراز سوخوي، وهو ما مثل نقله نوعية للسلاح الجوي الهندي.
لكن كل هذه المحاولات الهندية لإقرار سياسة مُتوازنة، لم تكن كافية لمُجاراة المُتغيرات في محيطها، خاصة الصعود الصيني المُتسارع، والذي دفع بنيودلهي لإحياء الحوار الأمني الرباعي “كواد”، الذي يضم إلى جانب الهند، اليابان، أستراليا والولايات المتحدة، وفي العام 2016 أتاح اتفاق التبادل اللوجستي الثنائي مع الولايات المتحدة، استخدام الأخيرة للمجالين الجوي والبحري الهندي، وفي العام 2018، وقعت الدولتين اتفاقيات أمنية بارزة.
ثانياً: المحددات الاقتصادية والعسكرية
منذ بدايات القرن الحالي، برزت الهند كقوة اقتصادية عالمية، حيث بلغ حجم اقتصادها 2.94 ترليون دولار، واتخذت مسارات اقتصادية مُستقلة نسبياً عن اتجاهاتها السياسية، فبلغ حجم تبادلها التجاري مع روسيا قُرابة 10 مليار دولار خلال الفترة 2019/2020، وكذلك بلغت الاستثمارات الأمريكية في الهند قُرابة 46 مليار دولار للفترة ذاتها.
وفي ظل حاجة الهند للنفط الخام، كثالث أكبر مُستهلك عالمي له، ارتفعت واردتها من روسيا في مايو 2022 حوالي 13.4% عن مستوياتها في ذات الفترة من عام 2021، بفعل الأسعار التفضيلية للنفط الخام الروسي لتجنب وطأة العقوبات الغربية المفروضة عليها، وعلى المنوال ذاته زادت الهند من واردات النفط الأمريكي بنسبة 11%، لترتفع بها حصة الولايات المتحدة في السوق الهندية إلى 8% في الفترة المذكورة أعلاه.
على النقيض من ذلك؛ تتمتع مبيعات الأسلحة الروسية للهند بوضع استثنائي، فنحو 60% من قوات الدفاع الهندية مُجهزة بأسلحة روسية، وتتعاون الدولتين في إنتاج صواريخ براهموس الجوالة (كروز)، بالإضافة إلى تصنيع مُشترك لطائرات سوخوي-30، ودبابات T-90، وخططاً لتصنيع الهند بنادق AK-203.
ولم تنفك الولايات المُتحدة عن دعم الهند عسكرياً للتعويض عن حاجتها للسلاح الروسي، ولضمها إلى المعسكر الغربي في مواجهة الصين، فواشنطن ترى في نيودلهي شريكاً استراتيجياً في ذلك، وتُواصل ممارسة ضغوطها لإلغاء صفقاتها من السلاح مع موسكو، والتي لا تجدي دائماً نظراً لأفضلية العلاقات العسكرية الروسية لها، لا سيما في البرامج المُشتركة لتصنيع الأسلحة، والامتيازات التي تمنحها موسكو في الأسلحة الدفاعية، وقدرة الهند على دمج أسلحتها المحلية بالروسية من طائرات مقاتلة وسفن حربية، بينما تفرض الولايات المتحدة قيوداً على ذلك، كما أن الصادرات الدفاعية الروسية تجري دون إشراف سياسي، وذلك على عكس ما يحدث بالنسبة للأسلحة الأمريكية التي تخضع بوجه عام لموافقة الكونجرس.
ثالثاً: المحددات الجيوسياسية
تظل الرغبة في تقويض الصعود الصيني المُتسارع، نقطة للالتقاء والارتقاء في العلاقات الهندية الأمريكية، فإن استراتيجيات الحصار الأمريكي للصين، تعتمد على وضع الهند جنباً إلى جنب مع أستراليا واليابان في المجموعة الأمنية الرباعية، كجزء يُوازن القُوى في الهندوباسيفيك.
وفي السنوات الأخيرة، وفي سياق التضييق على التمدد الصيني، الذي لم يكن مقتصراً على المُعادلة الإقليمية، انخرطت الهند في تأسيس المجموعة الاقتصادية في أكتوبر عام 2021، مع الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، في محاولة منها لإعادة هيكلة طُرق سلاسل الإمداد العالمية، وخطوط التجارة الدولية، بعيداً عن الصين ومشروعها “الحزام والطريق”. واتجهت الهند كذلك إلى حزام تجاري آخر، يربطها بالأسواق الأوروبية عبر بعض الموانئ الشرق الأوسطية واليونانية، ولعل آخر خطواتها في هذا الصدد، يتمثل في التقارب مع حركة طالبان، بعد لقاءات عدة بين مسؤولين من الهند وقادة في حركة طالبان.
وفي ضوء الاستعراض السابق لطبيعة مُحددات السياسة الخارجية الهندية، يبقى السؤال: هل ستتمكن الهند من التعاطي مع الأزمة الأوكرانية ضمن المحددات السابقة؟
الإجابة عن هذا السؤال يقودنا إلى إبراز الموقف الهندي من الأزمة الأوكرانية، والتي لم تظهر خلالها أي موقف عدائي أو تماشياً مُطلق مع الخطاب الغربي تجاه روسيا، بل امتنعت عن التصويت على ما إذا كان ينبغي لمجلس الأمن تولي القضية الأوكرانية (قبل بدء العمليات العسكرية الروسية) في 31 يناير عام 2022، باعتباره تهديداً للسلم والأمن الدوليين. كما امتنعت عن إدانة الاعتراف الروسي باستقلال إقليمي دونيتسك لوغانسك في شرق أوكرانيا، باعتبارها أحد الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن.
ومع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أواخر فبراير2022، اتخذ رئيس وزراء الهند نارندرا مودي خطاباً يدعو الأطراف لاتباع مسار تفاوضي عبر الدبلوماسية، وأعلن أن “الهند محايدة في الصراع”، وأكد موقفه امتناع بلاده عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المُتحدة لإدانة “العدوان على أوكرانيا”، في 2 مارس، كما امتعنت عن التصويت على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان في 7 أبريل.
تبقى مُحددات الموقف الهندي من الأزمة الأوكرانية، محكومة بمدى قُدرتها على مُوازنة علاقاتها مع الدول الكُبرى، فأصبحت جزءً من “الرباعية” المواجهة للصين، وكذلك عضواً في “منظمة شنغهاي للتعاون” ومجموعة “بريكس” بقيادة الصين وروسيا، وتمتلك علاقات اقتصادية مع اليابان والولايات المتحدة بنفس الأهمية لعلاقاتها مع روسيا والصين.
وفي موقفها من الأزمة الأوكرانية، تستشعر الهند فرصاً ومحاذير، تنطلق جميعها مما يلي:
من بين العديد من الفرص المواتية، يأتي النفط الروسي في مقدمتها بما أتاحه للهند من كميات غير محدودة وبأسعار مُنخفضة بنسبة 20% عن الأسعار القياسية العالمية، كما استفادت نيودلهي من آلية التعامل بالروبية والروبل، والتي جنبتها أعباء الضغط على قيمة العملة لتوفير الدولار اللازم لشراء النفط، كما كان معمولاً به بالسابق. بالإضافة لفرص الشركات الهندية في السوق الروسية، بعد رحيل العديد من الشركات الغربية عنه جراء العقوبات، لا سيما تلك المُتاحة في قطاع الصناعات الدوائية.
من ناحية أخرى، يُوفر التنافس بين القوى الكُبرى هامشاً للهند لتعظيم مكانتها في إطار سعي المُتنافسين لاستمالتها من جهة، وتسريع الانتقال إلى نظام دولي مُتعدد الأقطاب تكون فيه الهند قطب فاعلاً من جهة أخرى، فمهما طال أمد الأزمة الأوكرانية، فإنها توجه النظام العالمي القائم نحو حقبة جديدة، تسعى نيودلهي لحجز موقع مُتقدماً ضمنه.
هذا فضلاً عن دفع الأزمة الأوكرانية الدول الغربية والتحالف “الرباعي”، لتشديد مواقفها من الصين، مما دفع وتيرة العلاقات الهندية والأمريكية والكورية الجنوبية. وأشارت مصادر أمريكية أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تُفكر في تقديم تمويل عسكري للهند، بقيمه 500 مليون دولار.
على النقيض مما سبق؛ تتعدد التداعيات المُترتبة عن الأزمة الأوكرانية على الهند، فمن جهة روسيا التي تعتمد عليها نيودلهي في مجال التسليح والمعدات العسكرية، فإن العقوبات الغربية تطال القدرات الدفاعية الروسية وصادرتها وطرق إمدادها بما يؤثر على متلقيها ومنهم الهند. إلى جانب بروز العلاقات الصينية الروسية بمستوى شراكة استراتيجية “غير محدودة” قُبيل الأزمة الأوكرانية، ما يثير شكوك نيودلهي، بشأن الوثوق بشراكتها الأمنية مع روسيا حال اندلاع نزاع بينها وبين بكين، وتبقى مصلحة الهند بعدم عزل روسيا والصين، حتى لا تعتمد بجميع مصالحها على الولايات المتحدة وبشكل كلي، والتي كانت منذ وقت قريب تنتقد سياسات الهند القومية-الهندوسية.
إلى جانب ذلك، فإن عدم إدانة الهند للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ربما تفهمه بكين، بأنه أرضية تُشرع لها الدخول في مغامرات عسكرية في محيط الهند الحيوي، ويُسوغ لها ضم تايوان، أو حتى الاستيلاء على سيبيريا الغنية بالموارد الطبيعية.
ومن جهة أخرى، قد يؤدي تدهور البنية الأمنية الأوروبية، إلى تشتيت الاستراتيجية الأمريكية بعيداً عن مسرحها الرئيس في المحيطين الهندي والهادئ، مما سيمنح الصين حرية أكبر على طول حدودها مع الهند، وفي بحر الصين الجنوبي، كما يؤثر طول أمد الأزمة الأوكرانية على عرقلة تنامي العلاقات الهندية الأوروبية، والتي قد توجه الدول الأوروبية نحو الصين في محاولة لاجتذابها بعيداً عن روسيا، مما ينعكس سلباً على مكانة الهند سياسياً واقتصادياً والتي كانت تقدم نفسها كمحاور مفيد بين الغرب وموسكو.
وقد تطال تداعيات الأزمة الأوكرانية الوضع القائم في إقليم كشمير، إذ أنّ تبريرات موسكو لسلوكها ضد أوكرانيا مماثلة لتلك التي تقدمها باكستان والصين ضد الهند من الادعاءات التاريخية والروابط العرقية والدينية خاصة مع توجه روسيا نحو مغازلة باكستان.
وأخيراً فإنّ الأزمة الأوكرانية هي اختبار للسياسة الخارجية الهندية لاسيما استراتيجيتها للتحالف متعدد الاتجاهات، ويبقى الموقف الهندي مرتهنا بنتائج هذه الأزمة وتطور الصراع ومدى احتدام المواجهة بين روسيا والغرب، ولحينها ستفضل الهند التريث كثيراً.