بقلم: د. هاني نسيره
الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تقدير موقف، يتناول مآلات الأزمة السياسية في العراق في ظل ما يمكن وصفه بتمسك أطراف هذه الأزمة بمواقفها ومطالبها، بمعزل عما سيكون عليه قرار المحكمة الاتحادية حول حل البرلمان الحالي وعقد انتخابات جديدة أو البقاء على الحياد بدعوى عدم الاختصاص.
أدناه نص الورقة التحليلية كما ورد في موقع المركز:
تظل الأزمة العراقية مفتوحة، أيا ما سيكون عليه حكم القضاء العراقي المزمع في السابع من سبتمبر 2022، بحل البرلمان من عدمه أو الحياد بدعوى عدم الاختصاص، وليست التهدئة الحالية إلا وميض نار تحت الرماد، فبالرغم من دعوات التهدئة المتبادلة بين الفرقاء العراقيين، ودعوات قادة الإطار التنسيقي إلى التشارك في المواكب الحسينية، وتأجيل المفاوضات لما بعد الزيارة الأربعينية، إلا أن اشتباكات عدة لا تزال تقع بين أنصار من التيار الصدري وآخرين من فصائل التنسيقي، كان آخرها وقوع قتلى في اشتباكات في محافظة البصرة. وربما تشهد الساحة العراقية، جولات صدام واشتباكات أكثر خطورة وانكشافاً مع مرور الوقت.
أثناء ذلك، وجه الصدر عبر صالح العراقي المعروف بوزير الصدر، ما يُشبه الرسائل التي تضمنت إدانات لما أسماه “شيخ الإطار”، الذي يُحتمل أن يكون كاظم الحائري أو قيس الخزعلي أو غيرهم من خصوم الصدر، متهماً إياه –أياً كان المعني- بارتكاب جرائم في حق السنة والشيعة، وفي الوقت ذاته هدد العراقي في رسالة أخرى قيس الخزعلي والجماعة المُسلحة التابعة له بالقتل والاعتداء.
وهو ما يشي بأن الأزمة قد تنفجر في أي وقت لتشتعل الساحات العراقية من جديد، وتبقى سيناريوهات ردة الفعل مفتوحة من الطرفين، حال عدم الحل وانتصار خيار الإطار التنسيقي والقوى الموالية لإيران، والتي تسيطر على العراق منذ سنوات، أو حل البرلمان الذي يريده الصدريون، مما يجعلها تبدو هذه اللحظة هي لحظة هروب إلى الأمام، هروب من الأزمة ومن لحظة صدام قابلة للتجدد والتكرار.
إيران والحائري والاتفاق النووي
شهدت الأسابيع الأخيرة من أغسطس 2022 أزمة سياسية كبيرة في العراق، كان في القلب منها التيار الصدري الذي انسحب من البرلمان واتجه إلى الشارع بعد خلاف “شيعي – شيعي” مع “الإطار التنسيقي” بشأن تشكيل حكومة جديدة، واعتراضا على انفراد الأخير بتشكيلها وطرح اسم محمد شياع السوداني، الوزير السابق في حكومة حيدر العبادي، رئيسا للوزراء، وهو ما رفضه الصدريون الذين يمثلون الأغلبية البرلمانية منذ انتخابات 21 اكتوبر 2021.
منذ البداية؛ أعلن مقتدى الصدر أنه يحمل مشروعا لإصلاح العملية السياسية، وكانت أولى خطواته هي حكومة الأغلبية الوطنية، لكن الظروف التي عاشها العراق والمناكفات ومحركات الإطار التنسيقي والثلث المعطل، جميعها حالت دون تحقيق هذا الهدف، وهو ما أثار حفيظة ومخاوف الصدر من تكرار ما سبق حدوثه مع إياد علاوي في انتخابات عام 2010 حيث نجح نوري المالكي وحزبه في تشكيل الحكومة رغم حصول الأول على الأغلبية.
لكن الأزمة اتخذت أبعاد أخرى، بعد أن تدخل المرجعية الدينية كاظم الحائري، المقيم والمقرب من إيران، والذي دعى في بيان اعتزاله يوم 29 أغسطس إلى تقليد الولي الفقيه مرشد الثورة الإيرانية على خامنئي بديلا عنه، ووجه انتقادات شخصية وعنيفة لمقتدى الصدر وأهليته الأعلمية والسياسية، ليرد الأخير في بيان اعتزال بعد ساعات قليلة، مؤكدا على أنه لا فضل له عليه، ولكنها قيادته وتراث والده وأنه يقوم بواجبه الديني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من جانب آخر، هناك من يرى أن مواقف مقتدى الصدر، تمثل حائط الصد الأخير في وجه سيطرة مرجعية قم والنظام الإيراني على مرجعية النجف والفضاء الشيعي في العراق، خاصة بعد رحيل المرجعية آية الله السيستاني البالغ من العمر 94 عاما ( مواليد سنة 1930).
يمثل سجال الصدر والحائري تجسيدا للخلاف الفكري والمرجعي بين المرجعيتين وبين الرجلين المستمر منذ سنوات، حيث أكد مقتدى الصدر في بيانه على تقديم مرجعية النجف الأقدم والأكثر أصالة، في مواجهة مرجعية قُم التي دعا إليها كاظم الحائري، بل لوّح الصدر بأن الأخير وقع تحت ضغط دفعه للاعتزال، وإلى أبعد من ذلك؛ وجد الصدر في بيان الحائري إعلاناً عن رفع الغطاء المرجعي عنه، ومن هنا جاء تلويح الصدر باحتمال اغتياله على ما يبدو، فلم يكن بيان الحائري أيديولوجياً أو دينياً موجهاً لأتباعه فحسب، بقدر ما اتسع فيه الصدام مع الصدر واستهدفه شخصياً.
واتهم مقتدى الصدر في بيانه الحائري بالخلاف معه، حيث قال: “يظن الكثيرون بما فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم.. كلا، إن ذلك بفضل ربي أولاً ومن فيوضات السيد الوالد قُدس سره.. الذي لم يتخل عن العراق وشعبه”. لذا يبدو اعتزال الصدر استعدادا لمرحلة جديد من الصدام المباشر مع النظام الإيراني والميليشيات الموالية له، وبابا مفتوحا للمزيد من التأزم كما يريد خصومه وليس انهاء لها كما يرجعو جميع العراقيين.
وفي غضون ذلك، تبدو إيران المشغولة بمسودة اتفاقها النووي في المشهد وفي غير المشهد، تتدخل ولا تتدخل، رغم خطابها الإعلامي المناهض للصدر والمناصر لأتباعها، وهو ما يراه البعض إلحاحا على أهمية دورها في العراق تكشفه أمام الاتحاد الأوربي والقوى الغربية التي تحتاج النفط العراقي، في ظل الأزمة الأوكرانية، خاصة مع وصول الاحتجاجات لبعض مصادر النفط في محافظتي البصرة وميسان خلال الأيام الأخيرة من الاشتباكات، ويتوقع أن يزيد حال تجدد الصدام من جديد بين الطرفين، مما يلح على ضرورة الدور الإيراني التدخلي في العراق أو يستدعي تدخلا خارجيا لتسوية الأزمة في العراق.
اشتعال الأزمة والثلث المعطل
عندما أيقن الصدر بأن مشروع حكومة الأغلبية الوطنية قد أجهض، بدأ باتخاذ خطوات تصعيدية من ضمنها دخول أنصاره إلى البرلمان ومحاصرة القضاء ومن ثُم اقتحام القصر الجمهوري. لكن لجوء بعض أتباع التيار إلى استخدام السلاح ربما مثل تحديا كبيرا دفع الصدر إلى التراجع عن حراكه، حتى أنه دعا إلى رفع الخيام من أمام البرلمان وأنهى الاعتصام السلمي في الأول من سبتمبر.
كانت بداية انفجار الأحداث يوم الأحد 12 يونيو حين أعلن نواب كتلة “سائرون” التي تمثل التيار الصدري برئاسة النائب حسن العذارى استقالاتهم الجماعية من البرلمان الذي يمثلون أغلبيته بـ 73 مقعدا، بعد ساعات قليلة من توجيه مقتدى الصدر الأمر لهم بذلك، وبعد شهور من الجمود السياسي، حيث لم يتمكن التيار الصدري من تشكيل حكومة لأن الأسماء التي اقترحها لمنصب الرئيس واجهت اعتراضات من قبل ائتلاف “الإطار التنسيقي” الشيعي المنافس، الذي يضم في عضويته رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
وبدلا من حل الأزمة، مضت استقالة الصدريين رسميا، دون تفاوض ودون هدوء، وأدى النواب البدلاء عنهم اليمين الدستورية في جلسة استثنائية، أقسم فيها 64 نائبا من البدلاء، وغاب تسعة منهم، وذلك احتجاجا على عدم دعم مشروع “حكومة الأغلبية”، والإصرار على حكومة “توافقية” من قبل الإطار التنسيقي، ما تسبب بانسداد سياسي بدأت ملامحه تتضح على مدار شهور منذ ظهور نتائج انتخابات أكتوبر 2021.
وعلى إثر الاستقالة، وتسمية الإطار التنسيقي لمحمد شياع السوداني، انطلقت التظاهرات من أنصار التيار الصدري لاقتحام المنطقة الخضراء والبرلمان أواخر يوليو عام 2022.
هكذا، تطورت الخلافات بين الطرفين نحو المواجهات المسلحة، واشتعلت بشكل واضح بعد بيان اعتزال الصدر العمل السياسي يوم 29 أغسطس 2022، رداً على إصدار كاظم الحائري بيانا يعتزل فيه دوره كمرجعية والعمل السياسي، ويوجه انتقادات حادة لمقتدى الصدر طالت شخصيته وسياسته. وتمثلت خلاصتها بأنه ليس مؤهلا لقيادة التيار الصدري.
وفور بيان اعتزال مقتدى الصدر، اقتحم أنصاره المنطقة الخضراء من جديد، والقصر الرئاسي، ووقعت اشتباكات بين التيار الصدري وخصومه في العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، استخدمت فيها الصواريخ ومنها الكاتيوشا والمحمولة على الكتف، كما فعّلت السفارة الأمريكية منظومة السيرام لصدها.
وهاجم أنصار الصدر كافة مؤسسات الدولة واشتبكوا بالسلاح مع الأجهزة الأمنية، ما أدى إلى سقوط نحو 30 قتيلا من صفوف التيار وأكثر من خمسمائة مصاب وجريح، قبل أن يخرج الصدر في 31 أغسطس ليدعو أنصاره للانسحاب خلال 60 دقيقة.
ويقف العراق اليوم منتظراً لحكم المحكمة الاتحادية العليا في قضية حل البرلمان، والذي شهد تأجيلاً لمرات عدة، بالرغم من تحديد الصدر مدة 10 أيام للبت في الدعوى. ولكن المحكمة العليا أجلتها ليوم 17 أغسطس ثم ليوم 31 أغسطس، وبررت إعادة تأجيلها هذه المرة إلى حظر التجوال الذي فرض عقب الاشتباكات الحاصلة في المنطقة الخضراء ببغداد.
وبالرغم مما سيترتب على حكم المحكمة الاتحادية من تداعيات، يبدو أن الصدر والصدريين يصرون على مطالبهم في إصلاح المشهد السياسي العراقي برمته، إذ سبق أن صرح صالح العراقي بضروررة تغيير المشهد السياسي العراقي بالكامل، واستبدال قواه التي ظهرت منذ عام 2003 بما فيها التيار الصدري نفسه، ويمكن القول إن اعتزال مقتدى الصدر لا يمثل خطوة تكتيكية يحرك بها أتباعه كرا وفرا، حيث أكد في بيانه على موقفه من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتمكين لمرجعية النجف في مواجهة مرجعية قم التي أكد عليها الحائري.
ولكن هل يكون حل البرلمان هو الحل كما دعى مقتدى الصدر وأنصاره في دعواهم للمحكمة الاتحادية العليا؟
أمام دعوى حل البرلمان، يقف تياران أحدهما مؤيد وآخر معارض، كلآتي:
الأول: يوافق على حل البرلمان قيادات وقوى عديدة أبرزها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني الذي لمح إلى موافقته على انتخابات برلمانية مبكرة بعد اتفاق القوى السياسية العراقية على كيفية تنظيمها وضمان نزاهتها، وكذلك القيادي السني محمد الحلبوسي رئيس البرلمان العراقي الذي شدد على تنظيم انتخابات مبكرة، لكن وفق الدستور والقانون بشكل يضمن وجود إجماع سياسي على إجرائها من دون اعتراضات كبيرة.
الثاني: يصر جناح مؤثر في الإطار التنسيقي بقيادة نوري المالكي، على الاستمرار في نفس المسار، الذي يصفونه بالمسار الدستوري، وأن القضاء لا يحق له حل البرلمان وهو ما سبق أن صرح به رئيس المجلس الأعلى للقضاء في العراق. حيث يرى الإطار التنسيقي ضرورة عقد جلسة للبرلمان واختيار رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة ومن ثم تحديد موعد لانتخابات جديدة بعد تشكيل الحكومة، وقال زعيم ائتلاف “دولة القانون” نوري المالكي إن “تظاهرات الإطار التنسيقي بعثت برسالة إلى كل المكونات السياسية تتمثل باحترام المسار الدستوري والقانوني في العراق قبل اتخاذ أي خطوات بشان البرلمان الحالي”.
وختاماً؛ قد يرى البعض في حل البرلمان المنتظر أنه الحل الأمثل للأزمة الحالية، والأكثر منطقية وقانونية، ولكن يرجح آخرون أن يتجه القضاء العراقي لما سبق أن أعلنه رئيس مجلسه الأعلى برد القضية لعدم الاختصاص، وعدم حل البرلمان، في انتصار للإطار التنسيقي، وهو ما لا يستبعد معه عودة الصدريين للاحتجاج وتجدد الصدامات والاشتباكات.