الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تقدير موقف، يتناول الأوجه المحتملة للرد العسكري الصيني على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي إلى تايوان، ويقيّم جدية تصريحات واشنطن وبكين تجاه الجزيرة، ويبحث كذلك في دور العلاقات الاقتصادية في خفض التوترات.
أدناه نص الورقة التحليلية كما ورد في موقع المركز:
لطالما كانت جزيرة تايوان أحد ملفات التأزيم بين الولايات المتحدة والصين، ويرجع ذلك إلى خصوصية العلاقة ما بين الجزيرة والبر الصيني الرئيسي حيث تنافس الطرفان على السيادة والاعتراف الدولي في صراع تلى الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الصراع دعمت واشنطن تايوان إلى مستوى دقيق تمثل في توقيع اتفاقية دفاع مشترك ثنائية عام 1955 استمرت نافذة حتى 1980 بانسحاب الولايات المتحدة منها انسجاماً مع اعترافها بسيادة بكين وإقامة علاقات دبلوماسية عام 1979.
وفي ذات العام صدر مرسوم آخر تضمّن أن الاعتراف الدبلوماسي ببكين يرتكز على توقعاتها بأن مستقبل القضية التايوانية يجب أن يحل سلمياً، مع تعهد الولايات المتحدة بتزويد تايوان بالوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها.
وانبثق من هذين المرسومين ما بات يعرف بسياسة الغموض تجاه تايوان القائمة على “بلد واحدة بنظامين إداريين مختلفين”، ما يبقي الخيارات مفتوحة أمام صناع القرار الأمريكي في التعاطي مع هذه المسألة.
أحد هذه الخيارات هو الاستمرار في الضغط على الصين عبر تايوان، بما يصنع تحدي لها في عمق ما تراه سيادتها ويشتت أولوياتها الخارجية، وتأتي زيارات الوفود الأمريكية إلى تايوان في سياقات متصلة مع هذا التوجه، والتي كان آخرها زيارة حاكم ولاية إنديانا الأمريكية، إريك هولكومب في 22 أغسطس، ومن قبلها وفد الكونغرس الأمريكي في 14 أغسطس، تباعاً للزيارة الأبرز، والمتمثلة في زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي إلى الجزيرة بتاريخ 2 أغسطس 2022.
وصحيح أن زيارة بيلوسي ليست الأولى من نوعها بل سبقتها زيارة رئيس مجلس النواب الأمريكي الأسبق نيوت جينجرتش عام 1997، ولكن زيارة بوليسي تأتي في مرحلة تشهد سجالاً أمريكياً صينياً متعدد الأبعاد حول قضايا اقتصادية ودولية وتقنية وفكرية بعضها متصل بالقواعد المسيّرة للنظام الدولي.
فبعد تحقيقها طفرة اقتصادية مستندة على سياسة “الصعود السلمي”، أصبحت الصين تميل إلى إظهار سياسات تأكيدية صلبة “Assertiveness Policy” فيما يمكن وصفه بأنه تحول في نمط تعاطي بكين مع سياستها الخارجية.
واستعرض تقرير نشره ستراتيجيكس في يوليو بعنوان: “التوازن الضروري: صعود الصين والسيطرة الأمريكية”، بعض مظاهر هذا التحول.
وتؤكد تصريحات وزارة الدفاع الصينية حيال زيارة بيلوسي هذا التحول، حيث قالت بوضوح بأن الزيارة ستتلى برد “عسكري” محذرةً من ” إغراق تايوان في كارثة عميقة وإلحاق أضرار جسيمة بسكان الجزيرة”.
أحد هذه الردود تم في المناورات غير المسبوقة في مضيق تايوان التي شاركت فيها مختلف فروع الجيش الصيني، حيث حلقت في منطقة المناورات أكثر من 100 طائرة حربية، وأبحرت أكثر من 10 مدمرات وفرقاطات.
وبحسب صحيفة “Global Times” والصادرة عن الحزب الشيوعي، فإن الصواريخ الصينية حلقت فوق الجزيرة “للمرة الأولى”، فيما نقلت وكالة “كيودو” اليابانية، عن وزير الدفاع نوبو كيشي، أن صواريخ باليستية صينية سقطت في المياه الاقتصادية اليابانية.
وهدفت المناورات بالذخيرة الحية بحسب وكالة أنباء الصين الجديدة “CGTN” إلى محاكاة حصار الجزيرة والسيطرة على مجالها الجوي.
وفي عصر الحروب الهجينة وحروب الظل الاستخبارية، قد يبدو قاصراً افتراض أن الرد العسكري الذي هددت به وزارة الدفاع الصينية قد انتهى بانتهاء المناورات.
خطوات صينية محتملة
1- إحداث اختراق في خطط التحديث العسكري
قد يأتي الرد العسكري الأكثر استراتيجية في بث العزيمة والإصرار للمضي قدماً في خطط التحديث العسكري التي تندرج تحت الاستراتيجية العليا للدولة الهادفة لتسخير كافة الموارد المتاحة والمحتملة لخدمات المصالح الحيوية.
ووضع المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الذي عُقد في أكتوبر 2017 خارطةَ طريق لرؤية عسكرية تطمح إلى تحديث كامل القدرات العسكرية “Fully Modernized Power” بحلول عام 2035، وعلى المدى البعيد بحلول عام 2050 وصول الجيش الصيني إلى مستوى القمة “Top-Tier” بحسب المفردات التي وردت في اجتماعات الحزب، ودون التطرق صراحةً إلى هدف حيازة المرتبة الأولى عالمياً، فالمفردات كانت فضفاضة.
وتقع خطط التحديث العسكري الصيني في دائرة رصد وتقييم الدوائر البحثية الدفاعية في واشنطن، كمؤسسة راند التي تفرد مساحة دائمة للملف الصيني. وفي أحد الكتب الصادرة عنها عام 2020 والمعنون بـ”استراتيجية الصين العظمى: الاتجاهات، المنحنيات، والمنافسة على المدى البعيد”؛ استشرفت المؤسسة أربعة سيناريوهات للقوة القومية الصينية عام 2050، وهي: الظفر (الريادة العالمية)، والصعود (تعزيز قدراتها الحالية)، والركود، والانهيار الداخلي.
واستبعد الكتاب السيناريوهات القصوى المتمثلة في الظفر والانهيار، ورجّح تذبذبها بين الصعود والركود.
ولكن اللافت في الكتاب تحذيره من جدية التحديث العسكري الصيني وأنه في العقد الثالث سيكون للجيش الصيني قدرات عسكرية متكاملة قادرة على منازعة كل مجالات الحرب على امتداد رقعة الإقليم الواسع. ولذلك يوصي راند، الجيش الأمريكي وحلفائه بالاستعدادَ للانتشار الآني استجابةً لأي أزمات.
2- الضم القسري لتايوان
أحد هذه الأزمات تتمثل في تحرك مفاجئ للقوة البرمائية الصينية وإنشاء رأس جسر على بقعة من الساحل التايواني تمهيداً لاجتياح واسع النطاق وإخضاع الجزيرة لسلطة بكين.
وهذا التحرك يهدم التوافقات الموقعة منذ عام 1979 والقاضية بوجوب تكريس مبدأ “دولة واحدة بنظامين إداريين” الأمر الذي قد يترتب عليه رد أمريكي.
وقد يرى البعض أن عدم انخراط الجيش الأمريكي المباشر في الأزمة الأوكرانية يشجع النوايا الصينية لضم الجزيرة، ولكن من المضلّل مقارنة الحالتين، ذلك أن إقدام الجيش الصيني على مثل هكذا خطوة يمثل سابقة في تاريخها وما لم تُجابه هذه السابقة برد أمريكي حازم فإن بكين ستنضم إلى الدول المتساهلة في خرق أسس النظام الدولي، وهو ما يهدد قدرة واشنطن على الضبط وتأدية مهام القيادة الدولية حيثما دعتها مصالحها العليا إلى ذلك.
مع ذلك، يبدو أن ثمة شكوكاً أمريكية حول قُدرة الصين على ضم تايوان بالقوة، فقد استبعد مركز “Warrior Maven”، المتابع للانتشار العسكري الأمريكي والمهتم بأسلحة المستقبل والحروب السيبرانية؛ في تقريرين نُشرا بتاريخ 5 أغسطس 2022، سيطرة الصين على تايوان لأسباب عملياتية محضة.
ولكن ثمة عوامل تصب في صالح القوة الصينية كالقرب الجغرافي والقدرات البرمائية التي تتيح اجتياز الـ100 ميل الفاصلة بين البر الصيني والجزيرة، لذلك تعد سرعة الرصد والاستجابة الأمريكية حاسمة لإحباط التدخل الصيني المحتمل في مراحله الأولى.
وتعمتد القوات الأمريكية في ذلك على التفوق الجوي الواضح مسنوداً بطائرات الجيل الخامس “F-35” القادرة على العمل في تنظيم شبكي مترابط على عكس الصين التي تملك عدد محدود من طائرات “J-20”.
وتستطيع واشنطن التغلب على بعدها الجغرافي عن مسرح العمليات عبر قواعدها في أراضي الحلفاء وعبر حاملات الطائرات التي ترابط 5 منها في قيادة منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
كما تحوز الولايات المتحدة قدرات لوجستية مثبتة الفعالية في ميدان المعركة بحيازتها على 625 من طائرات التزود بالوقود جواً، بينما الصين تمتك فقط 3 طائرات من هذا النوع وتخطط لبناء المزيد في مشروعها التحديثي، وهو ما يمنح الجيش الأمريكي أفضلية التحليق المتواصل لمسافات بعيدة.
ويقع العامل الأكثر تحديداً في حسابات ميزان القوة على عاتق القدرات البحرية ذات التكنولوجيا المتقدمة القادرة على التخفي وتأدية مهام الحرب الإلكترونية والتنسيق المتكامل مع باقي صنوف الجيش كالطائرات المسيرة وحاملات الطائرات، إذ تسيطر على مجمل التفكير العسكري الأمريكي حول تايوان أهمية ضمان التفوق الجوي عبر وسائل مطلقة من البحر “Sea-Launched Air Superiority”.
ومن الضروري وضع القدرات العسكرية التايوانية في عين الاعتبار، فبحسب مؤشر Global FirePower” تأتي تايوان في المرتبة 21 عالمياً متفوقةً على أوكرانيا (22) وكندا (23)، وتمتلك منظومات دفاع أرض جو قادرة على التصدي للصواريخ البالستية، وتطور محلياً نظام للتصدي للمقاتلات المناوِرة.
ورغم أن واشنطن أنهت العمل باتفاقية الدفاع المشترك مع تايوان، إلا أنها واصلت دعمها عسكرياً، وهذا الدعم غير خاضع للتنافرات الحزبية وهو ما يتضح في نتائج تصويت المشرعين على القوانين الداعمة لتايوان.
آخر هذه القوانين ما تقدمت به لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ والمتمثل في حزمة ضخمة أُطلق عليه “سياسة تايوان 2022” تتكون من 107 صفحات وتتضمن تقديم الدعم النوعي وآليات التدريب العسكري وتمويل ترسانة احتياطية حربية وزيادة التنسيق المشترك بين القوتين في القدرات المؤثرة لتحقيق النصر العسكري.
قد يبدو ما جاء في هذا البند منافياً للمنطق ولأسس عقلانية الردع، ولكن يشير التاريخ إلى أن الأزمات الدولية كثيراً ما تفجرت في لحظة من الاسترخاء والتسليم باستمرارية الوضع القائم، مما يتطلب الحرص من مصادر الأزمات المحتملة حتى لو لم يكن ما يدلل على احتمالية وقوعها.
وفي الواقع لا يعد الاجتياح الصيني لتايوان مستحيلاً، فقد قدم رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، مارك ميلي، شهادة أمام الكونغرس حول تصريحات نسبت للرئيس الصيني، شي جين بينغ، حفّز فيها الجيش الصيني للاحتفاء بانتهاء برنامج التحديث العسكري عام 2027 بدل عام 2035 وتطوير القدرات لضم تايوان، وهو الأمر الذي اعتبره ميلي يدخل في باب الحديث عن حيازة القدرات وليس بالضرورة عقد النية والعزم لضم الجزيرة.
ومما يدلل أيضاً على أن ضم تايوان ليس مستحيل الوقوع ما نشره مكتب شؤون تايوان التابع للحكومة الصينية في أغسطس 2022 من أنها “سوف نبذل قصارى جهودنا لتحقيق إعادة التوحيد السلمي. ولكننا لن نتخلى عن استخدام القوة وسوف نحتفظ بخيار اتخاذ كل الإجراءات الضرورية”، وهذا النشر جاء في “كتاب أبيض” هو الأول منذ عام 2000 بحسب رويترز.
3-دعم روسيا عسكرياً
سياسياً، يتراوح موقف بكين من الأزمة الأوكرانية بين الحياد وإظهار تصريحات تتفهم الضرورات الأمنية للموقف الروسي، أما عسكرياً فلا يوجد ملامح لأي إسناد قدمته الصين لروسيا.
وحذّر الكاتب الأسبوعي في صحيفة “The New York Times ” توماس فريدمان، من أن زيارة بيلوسي قد تطيح بالمفاوضات “الحساسة” التي أجراها البيت الأبيض لمنع الصين من مساعدة روسياً عسكرياً في الأزمة الأوكرانية.
ويُظهر تقييم تماسك العلاقات الصينية الروسية إلى أنها تفتقر إلى متانة البعد الدفاعي، فهي تتراوح بين التبادل التجاري والتنسيق السياسي الوثيق، ولا ترتبط الدولتان باتفاقية دفاع مشترك ولا ببروتوكلات معلنة لتبادل التكنولوجيا الفائقة ذات الاستخدام المزدوج مدنياً وعسكرياً.
وعلى أرضية التهديد المشترك المتمثل بالأزمة الأوكرانية وجزيرة تايوان وغيرهما من الملفات، قد تتغاضى الصين عن مثبطات إقامة علاقات دفاعية مع روسيا كجزء من الرد على زيارة بيلوسي.
4- دعم مناوئي واشنطن عسكرياً
يمثل الانطباع المتصوَّر غربياً إزاء السلوك المحتمل لكوريا الشمالية عاملاً مشتتاً للأولويات الأمريكية في التعاطي مع الصين وروسيا على الساحة الدولية.
فيبدو أن ثمة نوع من رهان هاتين الدولتين على توظيف كوريا الشمالية في “استراتيجية إلهاء” ما جعلها تمثل “أصول” للصين بحسب مقال نشرته مجلة “Foreign Affairs” في فبراير 2022.
أما في أمريكا الجنوبية، فهنالك دول محتملة لتدشين الصين معها علاقات وطيدة، لا سيما ذات الثقافة السياسية اليسارية الاشتراكية، ولا تقل أهمية هذا الإقليم عن إقليم المحيطين الهندي-الهادئ في حسابات الأمن القومي الأمريكي، لا بل يمكن من منظور إقليمي افتراض أن أمريكا الجنوبية مؤثرة أكثر في المصالح والتهديدات لاعتبارات القرب الجغرافي.
ولا تزال واشنطن متمسكة بمبدأ مونرو الذي أًقر عام 1823 مع إدخالها تعديلات مستمرة على آليات تطبيقه بهدف صون أمنها الإقليمي.
وعلى امتداد الرقعة العالمية، وفي مختلف الأقاليم، تتواجد بؤر ساخنة مناوئة للتوجهات الأمريكية ومتحدية لنفوذها، وهذه البؤر تتلاقى اليوم سياسياً -وربما اقتصادياً- مع بكين، ومن الممكن في المرحلة القادمة أن يشمل الرد الصيني على زيارة بيلوسي التأسيس لروابط عسكرية هجينة تناكف بها الولايات المتحدة كما تناكفها هي في محيطها الآسيوي.
5- خلق وقائع جديدة حول مضيق تايوان
بغض النظر عن مكاسب بكين من التوحيد القسري، إلا أن الكلف قد تكون شبه وجودية وتطيح بتنميتها وشرعيتها الدولية كطرف يحترم القانون الدولي ويعارض استخدام القوة العسكرية لأغراض غير دفاعية.
وبالتالي، وفي سياق لاحق، قد تلجأ الصين إلى صناعة “وضع اعتيادي جديد” قائم على مزيد من العسكرة والمناورات المهدِّدة لاستمرارية تدفق الملاحة عبر مضيق تايوان المكتظ بالتبادل التجاري، فبحسب تقرير نشرته “Bloomberg” مطلع أغسطس 2022، عبرت المضيق منذ مطلع هذا العام قرابة نصف أسطول الشحن البحري العالمي و88٪ من السفن الأكبر حجماً.
وأدت المناورات التي أجرتها الصين تزامناً مع زيارة بيلوسي إلى تعطيل الملاحة كونها أُجريت بالذخيرة الحية، وهي من المرات النادرة التي تُنفذ فيها مناورات من هذا النوع حول مضيق بحري، وتكاد تكون المرة الأولى في تاريخ المناورات العسكرية الصينية حول المضيق.
ومن المتوقع أن يزداد إجراء هذه المناورات تعبيراً عن صلابة الموقف الصيني وجدية تهديداته، ليصبح اجتياز البحرية الصينية خطَّ المنتصف في المضيق عادة جديدة تنضم إلى الاختراقات المتعددة للمجال الجوي التايواني، ففي عام 2021 اخترقت الطائرات الصينية منطقة التعريف بالهوية الخاصة بالأجواء التايوانية في 969 حادثة، وهو ما يزيد عن ضعف الحوادث التي تمت في 2020، وفق “Defense News”.
ونظراً لأهمية المضيق الملاحية، فإن المساس بحرية الملاحة العالمية من الصعب تجاهله مثل الاختراقات للأجواء التايوانية، ولكن يظل سيناريو تضييق الملاحة أكثر واقعية وأقل كلفة على الاقتصاد الصيني وأمنها والأمن الدولي برمته من سيناريو الاجتياح العسكري.
كما أن سيناريو التضييق سيضعف الاقتصاد التايواني ويحبط النوايا الانفصالية التايوانية. أما التضييق الصارم بما يشبه الحصار البحري، فذلك أمر مستبعد نظراً للتداخل الاقتصادي.
التداخل الاقتصادي وخفض التوترات
رغم واقعها الجيوسياسي، بلغ الناتج الإجمالي المحلي لجزيرة تايوان 675 مليار دولار عام 2021، ما يجعلها تمثّل 0.6% من الاقتصاد العالمي، وبالنظر إلى عدد سكانها البالغ 24 مليون نسمة، فإن الأرقام الاقتصادية تعكس الموقع المتقدم لتايوان لا سيما في الصناعات التكنولوجية.
حيث تؤدي تايوان دوراً حاسماً في الطفرة التكنولوجية الحالية، لما تنتجه من رقائق إلكترونية -أو أشباه موصلات – فوفقاً لمعهد أبحاث “TrendForce” المعني بتقديم استشارات متقدمة في أسواق التكنولوجيا الفائقة، بلغت الحصة السوقية للشركات التايوانية المصنعة لهذه الرقائق عام 2021 ما يعادل 65% من الإجمالي العالمي، واستحوذت شركة “TSMC” لوحدها على 55% من الحصة العالمية، وتبلغ قيمتها السوقية وفق أرقام تداول البورصة في 11 أغسطس 2022 قرابة 515 مليار دولار.
والتقت بيلوسي في زيارتها مع رئيس هذه الشركة، مارك لي، بهدف جذب المزيد من نشاطها نحو الأراضي الأمريكية، وعرقلة إمدادات الشركة للصين، ويذكر أن العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على شركة هواوي استهدفت قطعَ علاقتها مع “TSMC” التي كانت تعتمد عليها لإنتاج أشباه الموصلات الفائقة اللازمة لأعمال البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس من الانترنت.
يندرج ذلك في توجه أمريكي للحفاظ على فجوة الريادة العالمية في عدة مجالات حساسة، وفي مقدمتها الريادة والابتكار والبنية التحتية، وأقر الكونغرس حزمة ترليونية لهذا الغرض، خُصص منها 52 مليار دولار لقانون الشرائح الإلكترونية والعلوم “Chips and Science Act”، تدعم عبره الحكومة الأمريكية صناعة أشباه الموصلات محلياً مقابل تعهد الشركات المستفيدة من الدعم بعدم توريد الشرائح المتقدمة لعملاء صينيين.
في هذا المناخ الجيوسياسي والتنافس التكنولوجي، تعمل الشركة التايوانية على تشييد معمل ضخم لإنتاج رقائق 5 نانومتر في ولاية أريزونا بتكلفة اجمالية تصل إلى 12 مليار دولار، على أن تضخ الشركة شهرياً 20 ألف رقاقة بحلول بدء العمل الفعلي عام 2024.
عملياً، من الصعب جداً عزل الصين عن كل واردات الرقائق الإلكترونية، ذلك أن إنتاجها يتطلّب مواد خام من المعادن الأرضية النادرة “REE” وتحوز الصين الاحتياطات الأكبر عالمياً والمقدرة بـ44 مليون طن متري، في حين تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثامنة عالمياً بـ1.8 مليون طن متري. ويظهر الشكل التالي أن معظم الاحتياطيات المعلنة تتركز في الصين وروسيا.
وبالتالي، هنالك نوع من الاعتماد التكنولوجي المتبادل الذي يضاف إلى الاعتماد الاقتصادي والتجاري الذي فرضه الانخراط في نظام دولي معولم.
وهذا الاعتماد بما يحمله من مكاسب للجميع، مع ما يقابله من عواقب النزاعات المسلحة والقطيعة الاقتصادية، يدفعان معاً إلى استبعاد فكرة اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل النزاع القائم، وهنا ينبغي التساؤل عن جدية تصريحات وزارة الدفاع الصينية بـ”الرد العسكري” على زيارة بيلوسي، وأيضاً التساؤل عما إذا كانت واشنطن تدعم قيام الدولة التايوانية المستقلة.
يمكن القول إن كل من الإدارة الأمريكية والقيادة الصينية تتعاملان مع أزمات محلية ضاغطة تدفع نحو تصديرها إلى المجال الخارجي، فالرئيس الصيني مهتم بتصدير صورة القوة أمام قواعده الحزبية استباقاً لانتخابات الأمانة العامة للحزب خريف 2022، وهو معني أيضاً بهذه الصورة أمام القواعد الشعبية التي سئمت من تكرار الإغلاقات الوقائية لاحتواء بؤر تفشي كورونا، فضلاً عن الأزمة العقارية التي ضربت مجموعة “Evergrande” وسط مخاوف من تفاقمها من أزمة قطاعية إلى أُخرى اقتصادية.
أما الإدارة الأمريكية، فمن شبه المؤكد أن البيت الأبيض والتقييمات الأمنية والسياسية لم تدعم خطوة بيلوسي، ولكن لا يستطيع بايدن التأثير على التيار التقدمي في حزبه ممثلاً برئيسة مجلس النواب حتى لا يبدو بمظهر المتخلي عن ركيزة “القيم” في سياسته الخارجية، لا سيما وأن هنالك انتقادات تقدمية لزيارته الشرق أوسطية في يوليو 2022 لم تحبّذ تفضيل المصالح على القيم في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
وبالمثل من الحزب الشيوعي، ستجرى انتخابات التجديد النصفي هذا الخريف في الولايات المتحدة وسطَ موجة تضخم وطاقة تعصف بالقدرة الشرائية للناخب الأمريكي، وهذه المعطيات تدفع الديمقراطيين للبحث عن رصيد خارجي يعرضونه للتعويض عن تناقص الرصيد المحلي.
وعلى صعيد شخصية بيلوسي، ففضلاً عن اعتزازها بذاتها كسيدة تقدمية حرة، فإنها تريد أن تنهي مسيرتها السياسية بموقف لافت في السياسة الخارجية، إذ أن أغلب التقديرات تشير إلى أن بيلوسي ذات الـ82 عام قد لا تترشح للانتخابات القادمة.
ومما يعزز فكرة أن لا تغيير جدي على الملف التايواني هو المكالمة الهاتفية بين (بايدن وبينغ) التي رغم حدتها لم تتضمن الخروج عن التطبيق السلمي لمبدأ “صين واحدة بنظامين”، كما أن الأزمة الأوكرانية تفرض على واشنطن وبكين، كلُّ وفق منظوره، العمل على التصرف بمسؤولية، فواشنطن معنية بممارسة بعض من “سياسة نيكسون” للحيلولة دون تماسك العلاقات الصينية الروسية، وبكين معنية بعدم الإضرار بنطاقها الحيوي في آسيا الوسطى المحاذية للأراضي الروسية.
وقد يوفر التراجع المحتمل لإدارة بايدن عن بعض من العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على الصين مخرجاً لحالة التأزيم الحالية، وهذا التراجع يخدم أيضاً الحزب الديمقراطي لما له من دور في خفض نسبة التضخم عبر الواردات الصينية منخفضة الثمن.
خلاصة القول؛ قد لا تكون زيارة بيلوسي نقطة تحول في مسار العلاقات الصينية الأمريكية، ولكن قد تكون الظروف الحادة المرافقة للزيارة دافعاً لرد عسكري صيني يتمثل في خلق وضع اعتيادي جديد حول تايوان يسوده تبادل الرسائل الخشنة بدل تبادل الرؤى والأفكار.
وما قد يدفع لاستمرارية الأجواء الحادة هو توالي الوفود الأمريكية إلى تايوان وإعلان وزارة الدفاع الصينية عن مناورات جديدة بالذخيرة الحية قرب خط المنتصف، ومع تطبّع سياسات القوى الكبرى مع هذا الوضع الناشئ يصبح تقاقم التصعيد مسألة وقت ما لم يتم إدارة هذا التوتر المستدام عبر حوار استراتيجي عملي ناجز بين الطرفين.
وفي اتجاه معاكس لهذا الحوار، علّقت بكين الاتصالات العسكرية مع واشنطن واجتماعات عمل وزارتي الدفاع، وجمدت التعاون الثنائي في الحد من التغير المناخي والهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات.
وهو ما يعني أن هذه الأزمة السياسية تقوّض تفاهمات ذات طابع دولي معنية بالتصدي لمخاطر مهدِّدة للأمن الانساني، كالأمن المناخي وما يرتبط به من أمن غذائي ومائي، ومكافحة الجريمة – والإرهاب – المنظمة العابرة للدول.
كل ذلك يدلل على أن السلام السلبي – لا حرب ولا تعاون – ينمو ليكون مستقبلاً نمط العلاقات الأمريكية الصينية، مما يلقي بظلاله على الأمن الدولي والتدفق الإيجابي للتفاعلات الدولية.
أما بخصوص التساؤل الوارد في عنوان هذا التقدير، فمن الأدق متابعة الرد “الهجين” ومراقبة الأنشطة الصينية في الأشهر القادمة، ذلك أن عقلانية القرار الصيني تحول دون أن يكون الرد الرئيسي عسكريَّ الطابع، في انتظار مراكمة الجيش الصين لقدراته وتحقيق خططه التحديثية العسكرية.