بقلم: محمود حسونة –صحيفة الخليج
الشرق اليوم- الأحداث التي تتعرض لها الإمبراطوريات الكبرى والقرارات التي تتخذها إداراتها ليست اعتباطية، ولكنها مؤشر يمكن من خلاله، رصد التغيرات الطارئة عليها، واستقراء المستقبل الذي ينتظرها. وعندما تتعرض الإمبراطورية الأعظم عالمياً لأحداث لا تتوافق مع الصورة الذهنية عنها، ويتخذ مسؤولوها قرارات لا تتوافق مع موروثها السياسي، تكون قد بدأت مرحلة التحول الذي يمكن أن يغير واقعها وموقعها على الخريطة العالمية، وهو ما لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكنه سيستغرق وقتاً، والمهم أن مرحلة التحول قد بدأت.
المتابع لحركة المجتمع الأمريكي، والواقع السياسي في الدولة الأولى يدرك أنها على أبواب مرحلة جديدة، وأن أمريكا المستقبل لن تكون هي أمريكا التي حكمت العالم، وتحكّمت فيه اقتصادياً وسياسياً، ولعبت بأنظمة دول الشطرنج، ومارست ضغوطاً وحاصرت دولاً، وأسقطت حكومات، وفرضت قيمها بالدبلوماسية مرة، وبالحروب والتوتر مرات.
مرحلة التحول في أمريكا بدأت منذ أحداث 11 من سبتمبر 2001، والتي لم يحدث مثيلها في أضعف الدول لتهز صورة أمريكا القوية التي تعرف كل شاردة وواردة على الأرض، ولكنها عجزت عن اكتشاف أكبر مؤامرة ضدها كما عجزت عن حماية أشهر معالمها وآلاف من مواطنيها من المد الإرهابي الذي صفعها بأسلوب غير معتاد.
ولكي تستعيد أمريكا هيبتها عالمياً، استخدمت قوتها الباطشة، وبعد أن فعلت ما فعلت في أفغانستان والعراق، لم تكسب سوى فقدان الثقة بها كقوة عظمى وبديمقراطيتها وقيمها الضاغطة على الشعوب والحكومات، وواصلت إشعال انتفاضات لم تخلف سوى الخراب والتدمير والتشريد لشعوب ودول متعددة، وواصلت الكيل بمكيالين في العديد من القضايا.
مؤخراً، حدث في أمريكا ما لم يكن في الحسبان، بمداهمة قوة من مكتب التحقيقات الفيدرالي منزل الرئيس السابق دونالد ترامب في فلوريدا، والعثور فيه على آلاف الوثائق نقلها من البيت الأبيض إلى منزله، واتهامه بإتلاف وإخفاء وثائق شديدة السرية، وهي المرة الأولى في التاريخ الأمريكي التي يوضع فيها رئيس سابق في موضع اتهام قد يؤدي به إلى السجن.
نظرياً، ما فعله ترامب لم يفعله رئيس سابق، لذا حاول أن يظهر فعله على أنه مسبوق باتهامه أوباما بارتكاب نفس الفعل، وهو ما نفاه مسؤولون. وعملياً، ما حدث زاد من حدة الانقسام بين الديمقراطيين والجمهوريين الذين كانوا ينقسمون شكلياً ويتكاملون واقعياً، ويقتسمون الرئاسة والكونغرس والولايات دون سواهم، وبالتبعية زاد حدة الانقسام في الشارع، وأصبح ترامب وبايدن في وضع لا يحسدان عليه. فالأول أتلف وأخفى وثائق سرية، والثاني تربص بسابقه في محاولة لإنقاذ حزبه في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر بعد تراجع كبير في شعبيته وشعبية حزبه، وفي محاولة أيضاً لإبعاد غريمه اللدود عن الترشح في انتخابات 2024 الرئاسية، على الرغم من نفي بايدن العلم بالتفتيش قبل حدوثه وهو نفي مشكوك فيه، فضلاً عن التلاسن وتبادل السب والقذف بلغة غير معهودة بين ترامب وبايدن وأوباما.
ما بين أحداث 11 من سبتمبر، وتفتيش منزل ترامب، العديد من القرارات والأحداث التي تؤكد بداية الانهيار. فقد نجحت السياسة غير الحكيمة تجاه أزمة أوكرانيا في سد الأفق الدبلوماسي بين واشنطن وموسكو، كما تهدّد التحرشات الأمريكية بالصين عبر تايوان، بانسداد الأفق بين واشنطن وبكين، وهو ما سيفرض تعدد القوى العالمية وسيزيد التنافس على موقع رئيس مجلس إدارة الكوكب الذي انفردت به أمريكا عقوداً.
داخلياً، استيقظ التمييز العنصري وعاد لينهش في جسد المجتمع، ويقسم أبناءه حسب اللون والعرق، وغذت تصريحات وخطابات بعض الكبار موجة العنصرية، وهو ما تجلى في خطابات ترامب مرشحاً ورئيساً تجاه المهاجرين والملوّنين والمسلمين واللاتينيين والعرب.
وبعد أن كان العالم ينظر إلى أمريكا على أنها مصدر الحماية من الكوارث والأزمات، وضعت أزمة كورونا أمريكا على رأس قائمة الدول الفاشلة في مواجهته، ثم جاءت الحرائق وارتفاع الحرارة نتيجة التغيرات المناخية لتزيد اهتزاز صورة الدولة الأعظم.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي هو الأول عالمياً، جاء ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم غير المسبوقة منذ 40 عاماً، ليؤكد أن أمريكا لا تختلف عن غيرها من الدول العاجزة عن معالجة أزماتها.
أمريكا في أزمة، والأزمة تزداد استفحالاً في الداخل والخارج يوماً بعد يوم، وطريق التحوّل والهبوط قد يستغرق وقتاً ويفاجئ العالم بسرعته، مثلما فاجأنا التغير المناخي بعواقبه التي لم نتوقعها سريعة بالشكل الذي نعيشه حالياً.