بقلم: د. أحمد يوسف أحمد – صحيفة الاتحاد
الشرق اليوم- يُعَد هنري كيسنجر رائداً من رواد المدرسة الواقعية في تحليل العلاقات الدولية التي ازدهرت بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن حطمت الحرب الأولى أحلام أنصار المدرسة المثالية بسلام دائم وحكومة عالمية. وقد جمع كيسنجر بين الفكر والممارسة باعتباره أكاديمياً له كتابات رائدة في العلاقات الدولية وممارساً شغل مواقع رفيعة في دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة كمستشار للأمن القومي ووزير خارجية للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (1969-1974)، وله يرجع الفضل في بدايات الانفراج مع الاتحاد السوفييتي وتغيير الموقف الأميركي الرافض للاعتراف بالصين الشيوعية في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
وللمدرسة الواقعية فضل بناء القرارات في السياسات الخارجية للدول على أساس من الواقع وليس الإدراكات الخاطئة، فلا تتخذ دولة قراراً يتجاوز قدراتها، ولا تثق بضمانات أمنية لا يعززها الواقع وهكذا، لكن مشكلة الواقعية تبدأ عندما لا يتم التحسب لها أصلاً فتنشأ أوضاع قد لا تكون عادلة ومع ذلك يتعين أخذها في الاعتبار في أي تسوية.
وقد أدلى كيسنجر بدلوه في الحرب في أوكرانيا، وأثارت كلمته خلال منتدى دافوس مايو الماضي، ضجةً بما بدا فيها من معالم التفكير الواقعي بالغة الوضوح، فقد حث الغرب على التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة ساحقة بروسيا، محذراً من العواقب الوخيمة لهذا السلوك على المدى البعيد، شارحاً أنه سيكون من الخطورة بمكان على الغرب الانغماس في مزاج اللحظة ونسيان مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي، ومُذكراً القادة الأوروبيين بأن روسيا كانت جزءاً أساسياً من أوروبا على مدى400 عام، كما كانت الضامن لتوازن القوى الأوروبي في الأوقات الحرجة، وأنه لا ينبغي على القادة الأوروبيين دفع روسيا لتحالف دائم مع الصين، وحثهم على إقناع أوكرانيا بالتفاوض قبل أن تحدث تطورات ليس من السهل التغلب عليها، وأوضح أنه من الأفضل أن يكون هدف التفاوض هو العودة إلى الوضع السابق قبل اندلاع الحرب، وطالب الأوكرانيين بالتحلي بالحكمة إلى جانب البطولة التي أظهروها.
ولا يوجد نص يكشف عن ملامح التفكير الواقعي وإشكالياته أكثر من هذا النص، فانطلاقاً من التفكير الواقعي يحذر كيسنجر من توهم الغرب إمكان هزيمة روسيا، ليس بالضرورة بمعنى أن هزيمتها مستحيلة، ولكن بمعنى أن تداعيات هذه الهزيمة ستكون مزلزلة للأمن الأوروبي، كما أنها ستفضي إلى محاولة جديدة، أغلب الظن ستكون ناجحة لإعادة بناء القوة الروسية، كما فعلت روسيا في مواجهة غزو نابوليون وكما فعل الاتحاد السوفييتي في مواجهة الغزو النازي.
وقد هُزمت ألمانيا في الحرب الأولى، لكن تداعيات إذلالها في تسويات الحرب أفرزت ألمانيا النازية التي أفضت لكارثة الحرب الثانية، وتفكك الاتحاد السوفييتي دون حرب، ووصلت قوة وريثته روسيا إلى الحضيض، لكن بوتين سرعان ما استعاد القوة والحضور الروسيين في الساحة الدولية. وها هو يشن حملته العسكرية في أوكرانيا لمحاولة تصحيح الأوضاع التي تجاهلت متطلبات الأمن الروسي تماماً. وبالتالي فإن فضل التفكير الواقعي في العلاقات الدولية هو التحذير من مغبة التوهم بأنك يمكن أن تُخرج قوة بوزن روسيا من ساحة التفاعلات الدولية، كما كان لافتاً أن يُحذر كيسنجر قادة الغرب من دفع روسيا إلى تحالف دائم مع الصين، فمن المعروف أن العلاقات الصينية-السوفييتية لم تكن دائماً على ما يرام، وأن الغرب قد استفاد كثيراً من ذلك، بينما تدفع السياسات الغربية الراهنة روسيا والصين لتحالف وثيق نراه الآن، وقد عاود كيسنجر في الأيام الأخيرة طرح أفكاره بخصوص الحرب في أوكرانيا وتسويتها، وهذه معضلة حقيقية أثارت جدلاً واسعاً وغضباً أوكرانياً بما يستحق مقالاً منفرداً.