بقلم: ماثيو بيسيرا
الشرق اليوم- كان تفكيك الدولة البدائية التي أنشأها تنظيم داعش في عام 2019 على يد تحالف بقيادة الولايات المتحدة، انتصاراً مهماً، لكنه لم يكن كافياً لهزم هذه الجماعة المتطرفة بالكامل أو إلغاء الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي سمحت بتوسُّع التنظيم منذ البداية.
في آخر ثلاث سنوات، أثبت “داعش” قوة تحمُّله ضد جهود التحالف الرامية إلى استئصاله، وبدأ يتكيف مع الظروف تدريجياً، وينشئ بيئة تناسب عودته المحتملة إلى شمال شرق سورية ووسطها.
لا يزال التنظيم يملك أعداداً كبيرة من المقاتلين، رغم هزيمته العسكرية، ويمكنه أن يستدعيهم إلى الجمهورية العربية السورية في أي لحظة، وهو يطلق حركة تمرد منخفضة المستوى ضد عدد من الأطراف لإثبات قدراته، وإضعاف ثقة الرأي العام بالسُّلطات المحلية، وإعاقة جهود المصالحة، ومنع إرساء الاستقرار في المناطق العابرة للطوائف.
يطمح “داعش” إذاً إلى استرجاع تأثيره والأراضي التي خسرها بعد انهيار دولة الخلافة عبر استغلال هشاشة الدولة السورية.
تمكَّن “داعش” من إطلاق حركة تمرد في شمال شرق سورية، بسبب قلة كفاءة “قوات سورية الديموقراطية” التي يقودها الأكراد، لأنها فشلت في ضم عرب محليين إلى عملية صُنع القرار، لهذا السبب عجزت هذه الجماعة عن فرض الأمن بالشكل المناسب، فتضرر السكان المحليون عن غير قصد خلال عمليات مكافحة الإرهاب، نتيجة الاعتقالات الجائرة والفشل في معالجة المشاكل الاقتصادية.
أنتجت هذه العوامل مُجتمعةً فسحة يستطيع “داعش” استغلالها لإضعاف ثقة المدنيين بالقيادة الكردية وزيادة جاذبية التنظيم المتطرف.
يصعب على قوات الأمن إضعاف حركة التمرد في شمال شرقي البلاد، بسبب خطوط السيطرة القابلة للاختراق بين مختلف مناطق سورية، وتزداد هذه المهمة صعوبة، لأن القادة يقيمون في أماكن أخرى.
تستطيع وحدات “داعش” إذاً أن تتجنب الضغوط في إحدى المناطق عبر الانتقال إلى منطقة أخرى. كذلك، تشمل معظم عمليات التمرد التي يقودها التنظيم متمردين ذوي مستوى منخفض، ما يعني إمكانية استبدالهم بمقاتلين جدد يتم تجنيدهم في الشمال الشرقي وتدريبهم في وسط سورية. في الوقت نفسه، تجد قوات الأمن صعوبة في تحديد هوية قادة “داعش” واعتقالهم، بسبب المصاعب التي تواجهها “قوات سورية الديموقراطية” والتحالف الأمريكي لبناء شبكات استخبارية فاعلة.
منذ خسارة دولة الخلافة، سُجِّل تراجع لافت في نفقات “داعش”، لكن غالباً ما تغفل الأطراف المنشغلة بمعرفة الأرباح التي يجنيها التنظيم عن هذا الواقع. بعد خسارة الأراضي، خفّض “داعش” تكاليف الحُكم، وتراجعت أيضاً نفقاته العسكرية، بعد تحوّله إلى حركة تمرّد سرية. تسمح خسارة المقاتلين والأعضاء خلال القتال بزيادة مرونة التنظيم في إدارة الرواتب، وقد حرص “داعش” في الوقت نفسه على تقليص التكاليف الشخصية. من خلال تخفيض النفقات والممارسات الاقتصادية الراهنة، تمكَّن التنظيم من إعالة نفسه، وإعادة بناء أسسه، وتحقيق أهدافه بطرق خبيثة. يثبت “داعش” طوال الوقت مرونته التنظيمية عبر حماية هياكله المالية والاحتفاظ بالقدرة على جمع الأموال ونقلها.
من الواضح أن “داعش” استفاد من الصراعات والفوضى وضعف المؤسسات داخل سورية لتوسيع عملياته، ومن المستبعد أن يفرض التنظيم نظام الخلافة على مناطق واسعة مجدداً أو يسترجع الامتيازات التي حصدها في عام 2015، لكن لا مفر من أن يُزعزع توسعه المتجدد الاستقرار في الشرق الأوسط.
لهزم “داعش” تدريجياً، يجب أن يضع الخصوم خلافاتهم جانباً، ويُطلقوا تعاوناً استخبارياً مكثفاً لمنع المقاتلين في التنظيم من تجاوز خطوط السيطرة بسهولة. لقد أثبتت الحرب الأمريكية على الإرهاب أن التحركات العسكرية المتواصلة لا تكفي لمجابهة حركات التمرد، ولمنع عودة “داعش” المحتملة وإخماد جاذبية التنظيم بنظر الكثيرين، يجب أن يتحسن الوضع الاقتصادي في سورية، وتحصل مصالحة سياسية بين الأطراف المتناحرة والجماعات الطائفية، وتبقى نوعية الخدمات العامة ثابتة وكافية. لكن يصعب تحقيق هذه الأهداف على أرض الواقع، فهي تتطلب سنوات من الاستثمار والإصلاح والاستقرار النسبي، ونظراً للوضع الراهن في سورية، من المستبعد أن يتحقق أي تقدُّم بارز في المستقبل القريب.