بقلم: أحمد مصطفى –صحيفة الخليج
الشرق اليوم- نعم، العنوان صحيح. هذه الدولة التي كانت تحكم إمبراطورية “لا تغيب عنها الشمس”، يعاني الملايين من سكانها الآن “فقراً لم نره في حياتنا” كما وصف رئيس وزرائها السابق غوردون براون الوضع في بلدته في مقابلة تلفزيونية.
ليس في الأمر أي تعابير مجازية، بل هو واقع حقيقي يعيشه الناس في بريطانيا ويزداد قسوة كل يوم. وبعيداً عن أي مزايدات سياسية يستخدمها البعض لأغراض انتخابية فإن الأرقام لا تكذب.
ومنذ فترة وكل المؤسسات الدولية تخلص إلى أن اقتصاد بريطانيا في وضع أسوأ من اقتصادات الدول المماثلة، سواء في مجموعة السبع أو مجموعة العشرين أو دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. وليس للأمر علاقة بالحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا لكن مشكلة بريطانيا تعود إلى ما قبل الحرب بمدة.
وأخذ الوضع في بريطانيا يتفاقم منذ العام الماضي، وتحديداً مع بدء ظهور آثار خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست). ولأن حكومة المحافظين التي يقودها بوريس جونسون منذ عام 2019 هي “حكومة بريكست”، فلا يمكن أن تعترف بأن بريكست أضر ببريطانيا اقتصادياً. وظلت حتى اللحظة الأخيرة، وحتى بعد استقالتها مؤخراً، تصر على أن أهم إنجازاتها هو أن بريطانيا “أصبحت تملك قرارها” بالخروج من أوروبا وتكرر الوعود الزائفة بأن بريكست سيفتح آفاقاً غير مسبوقة للاقتصاد البريطاني.
والمتابع للأخبار منذ مطلع العام الماضي يمكنه ببساطة تعداد الأضرار التي لحقت ببريطانيا، اقتصادياً وغير ذلك، منذ البريكست.
واكتشف الناس، خاصة منذ الصيف الماضي، أن بلادهم لا تنتعش كما بقية العالم وأن البريكست لم يوفر لهم المليارات الموعودة.
لم يعد الناس في بريطانيا يهتمون كثيراً بالوعود البراقة والشعارات المبهرة، بينما هم يعانون في الوفاء بتكاليف المعيشة التي ترتفع يومياً وبشكل أكبر بكثير مما يحدث في بقية بلدان العالم. على سبيل المثال، ارتفعت قيمة فواتير استهلاك الطاقة في المنازل منذ شهر اكتوبر 2021 بنحو ثلاثة أضعاف، وسترتفع مجدداً في شهر أكتوبر القادم ليكون الارتفاع الرابع في عام. وحسب كثير من الدراسات والإحصاءات، هناك ثمانية ملايين أسرة بريطانية ستصبح في حالة “فقر” بعد شهرين مع دخول فصل الشتاء.
وبعيداً عن الأرقام والبيانات والدراسات والتوقعات، تجد البريطانيين من مختلف المناطق والبيئات والمستويات على شاشات التلفزيون يشكون من الفقر. من حالة المرأة التي تركب الباص يومياً (لأنه مجاني باعتبارها فوق سن الستين) لأنها لا تستطيع تحمل كلفة فاتورة تدفئة بيتها إلى أسر كثيرة والتي إما أن تخفض وجباتها اليومية وجبة لتستطيع تحمل كلفة العيش أو تلجأ إلى “بنوك الطعام” لتغذية أبنائها الذين ترعاهم.
بدأت الجمعيات الخيرية في بريطانيا بالفعل في تكديس البطاطين وحقائب النوم وزجاجات المياه الساخنة لمساعدة الأسر الفقيرة مع دخول الشتاء بعد شهرين. وتستعد دور العبادة لفتح أبوابها للمتقاعدين كي يجدوا ملاذاً دافئاً بدلاً من التجمد من البرد في بيوتهم التي لا يستطيعون تحمل كلفة الطاقة فيها.
كل ذلك لن يكفي لمواجهة معاناة الملايين، لكنه قد يخفف من حدة تأثير الفقر في الأرواح خاصة بين كبار السن. ومع أن الحكومة أعلنت تقديم دعم للأسر بنحو خمسة عشر مليار جنيه استرليني إلا أن كل التقديرات تشير إلى أن تخفيف معاناة ملايين الأسر التي وصلت حد الفقر يتطلب أضعاف هذا المبلغ.
لذا، تجد الموضوع الرئيسي – وربما الوحيد – في كل المناظرات والخطابات للمرشحين المتنافسين على خلافة جونسون وزعامة المحافظين ورئاسة الحكومة هو الاقتصاد وتكاليف المعيشة ومعاناة الملايين من الفقر. ولا يبدو أن وزيرة الخارجية ليز تراس، التي تتقدم في استطلاعات الرأي كخليفة لجونسون، أو وزير الخزانة المستقيل ريشي سوناك يقنعان الكثيرين بقدرتهما على مواجهة هذه التحديات والمصاعب.