بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- تدرك واشنطن مدى حساسية الصين تجاه ملف تايوان، الذي يعدّ بالنسبة لبكين ملفّاً أمريكياً، تتداخل فيه عوامل الجغرافيا والتاريخ، وما يتفرع عنهما من إشكالات لها علاقة بالهوية، أو بالخيارات السياسية، ومع ذلك، فإن واشنطن تمضي خطوة أبعد في تأجيج حالة التصادم بين الصين وتايوان، فقد شكّلت زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، وثالث أهم شخصية في النظام السياسي الأمريكي، خطوة نحو التصعيد، دفعت بكين إلى اتخاذ ردّ فعل مباشر، وبدء مناورات عسكرية، قبالة سواحل تايوان، في منطقة بحرية، تعدّ من أكثر المناطق البحرية ازدحاماً في العالم
لعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في تاريخ تايوان، وذلك من خلال الدعم العسكري الذي قدمته للقوات المسلحة التايوانية، أو حتى من خلال الحضور المباشر لقواتها البحرية، حيث يعود تاريخ أول تواجد عسكري أمريكي في مضيق تايوان إلى عام 1945، حين قرّر الرئيس هاري ترومان إرسال قطع بحرية من الأسطول السابع إلى مضيق الجزيرة، لمنع الشيوعيين آنذاك من الاستيلاء عليها، كما أسهم الدعم الأمريكي في منح تايوان قوة تفاوضية ضد بكين، وهو ما مكّن الجزيرة من الحفاظ على شكل من أشكال الاستقلال عن جمهورية الصين الشعبية، من دون أن يؤدي إلى استقلال كامل، بل إلى وضع قانوني معقد، من حيث نقص الشرعية الدولية، تجاه النظام السياسي في الجزيرة.
الخطوات والتصريحات الأمريكية المتعلقة بالأوضاع السياسية في منطقة المحيط الهادئ، زادت وتيرتها خلال الأشهر الأخيرة الماضية، بالتزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية، واستعادت معها المواقف المتشنجة لكلّ من الكوريتين الجنوبية والشمالية، واليابان، والصين، وتايوان، في منطقة لا تزال فيها الصراعات والهواجس التاريخية والسياسية حاضرة بقوة، على الرغم من المكتسبات التي حققتها معظم هذه الدول، خلال العقود الأخيرة، في المجالات كافة، خصوصاً في مجالات الاقتصاد، ويبدو واضحاً أن واشنطن تعيد تصليب مواقف القوى المعادية لبكين، وشحن وتوتير الأجواء السياسية، وإعادة وضع الخيارات العسكرية على طاولة العلاقات الإقليمية، في الوقت الذي لم تعد فيه خيارات المواجهة العسكرية بين الدول الكبرى مستبعدة، بعد الحرب الأخيرة في أوروبا.
مفهوما الحرب أو السلام من المنظور الأمريكي، لا يتمتع أحدهما بأية أفضلية سياسية أو أخلاقية، بقدر ما يخدم المصالح القومية الأمريكية، خصوصاً التفوّق الاقتصادي في سوق العمل الدولي، وهو التفوّق الذي بدأ يعاني منذ عقد تقريباً من الصعود الصيني، حيث أصبحت الصين ثاني قوة اقتصادية في العالم، بناتج قومي يصل إلى حوالي 18 تريليون دولار أمريكي، وتحكّمها بعدد كبير من الصناعات العالمية، التي تتراوح بين الصناعات التحويلية الضرورية (التي تخلّت عنها الكثير من الدول) والصناعات عالية التقنية، وهو ما دفع واشنطن فعلياً إلى وضع الصين في رأس قائمة التهديدات القومية، وجعلها محور سياساتها الخارجية، ومن خلال هذا المنظور للخطر الذي تشكّله بكين، تعيد واشنطن بناء الاصطفافات السياسية حول العالم.
بعد فشل تجربة التدخّل العسكري المباشر في العراق في عام 2003، أعادت واشنطن تقييم جدوى التدخّل العسكري المباشر، لإحداث تغييرات فورية. وعلى الرغم من وجود تباين في الرؤى في وجهات النظر داخل المؤسسات الأمريكية الرئيسية، أو بين الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي، إلا أن الميل الأكثر وضوحاً وتحققاً هو دفع القوى الإقليمية للصراع فيما بينها، بدلاً من تدخّل أمريكي عسكري مباشر، وهو ما يتيح لواشنطن لعب أدوار متعددة ضمن الصراعات، من بينها الدور التفاوضي، حتى لو كانت داعمة عسكرياً لأحد أطراف الصراع.
في الحرب الروسية الأوكرانية، تمنّعت واشنطن عن لعب دور فعّال لمنع حدوث الحرب، بل إنها استخدمت خطاباً سياسياً موارباً، من شأنه توريط الطرفين في نزاع عسكري، بدلاً من الاحتكام إلى طاولة المفاوضات، ومن الناحية العملية، فإن طول أمد الحرب، التي دخلت شهرها السادس، من شأنه أن يحقق أهدافاً عديدة لواشنطن، في مقدمتها استنزاف مخزون التسليح الروسي، وتصليب الجبهة الأوروبية إلى جانب واشنطن، وقطع أي توجّه نحو الاستقلالية لدى الاتحاد الأوروبي في علاقاته ومصالحه الخارجية، وإبقاء سياساته الكبرى تدور في فلك السياسات الأمريكية، في أعلى مستوى للتبعية الاستراتيجية.
الإسهامات الأمريكية المباشرة مؤخراً في توتير الأجواء السياسية العدائية بين الصين وتايوان، لا تبدو بعيدة في شكلها أو مضمونها عن الأجواء التي مهّدت للحرب الروسية الأوكرانية، فهي تدفع نحو تقليل المسافة التفاوضية، لمصلحة التورّط في الحرب، وهو ما ترغب به واشنطن، لإعادة ترتيب سوق العمل الدولي من جديد، بشروط جديدة.