بقلم: خالد اليماني – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- بعد ساعات قليلة من صدور البيان المشترك بين السعودية والولايات المتحدة يوم السبت الماضي، حول المباحثات التي أجراها الرئيس بايدن مع القيادة السعودية في جدة، وتحديداً ما اتفق عليه حول اليمن، غردت في صفحتي على منصة “تويتر” بنص البيان، موجهاً رسالتي لأهلي المنكوبين بحرب السنوات الثماني في كل أرجاء اليمن، وقلت “اسمعوا وعوا، انتهت حرب اليمن، الآن حان وقت السلام!”.
بلغ التفاعل مع تلك التغريدة مئات الآلاف، وعكست التعليقات نزعات مختلفة للحرب من زوايا شتى، بين من يكتوي بها، ومن تشرد بسببها، ومن انتفع منها، إلا أن مجمل التفاعلات عكست أن اليمنيين تواقون لنهاية الحرب والعودة إلى شكل من أشكال الأمن والاستقرار المجتمعي، كما بينت التعليقات أن قلة من المنتفعين من الحرب ومن يدورون في فلك اقتصادها، والمشتغلين لدى أمرائها لم يستنفدوا طاقاتهم للقبول بنهاية الحرب كي يعملوا من أجل السلام، لأن في ذلك مضرة لهم، وهذه القلة مع الأسف هي المتحكمة اليوم بمصائر اليمنيين وبالمشهد العام في اليمن.
وفي الحقيقة، فإن هذه التغريدة لا تنفصل عن أخرى سابقة كنت نشرتها في بداية أبريل (نيسان) الماضي تعقيباً على مخرجات مؤتمر الرياض 2 حول اليمن، الذي رعاه مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وقلت فيها إن المشاورات اليمنية التي جرت في الرياض، تحت سقف مجلس التعاون، اعترفت بفشل الخيار العسكري، ودعت إلى إجراء محادثات سلام مع الحوثيين، وإدراج قضية الجنوب في التسوية السياسية النهائية، وقلت معلقاً “حان وقت التحدي، فإما إبرام صفقة سلمية، أو جولة جديدة من الصراع في اليمن”.
تعليق أحد المتفاعلين ركز على أن البيان المشترك لم يأت بجديد، وما اللغة التي استخدمها إلا تكرار للمفردات ذاتها التي استخدمت خلال السنوات الماضية حين التعاطي مع الأزمة اليمنية، وأعتقد أن المتابعين للشأن اليمني يعرفون حجم التغيير الذي طرأ على المشهد العسكري منذ مخرجات الرياض 2، كما أن البيان يحمل موجهات للمرحلة المقبلة، أبرزها العمل على تحويل الهدنة إلى اتفاق سلام دائم، وتأكيد موقف السعودية المعلن دائماً لإنهاء حرب اليمن.
وجاءت الإشادة بجهود مجلس القيادة الرئاسي مرتبطة بموقفه من السلام واستمرارية الهدنة وإنهاء الحرب، وليس لاستدامة النزاع، فيما تركزت المناشدة الدولية نحو الحوثيين لسلوك طريق السلام، بما يكفل إنهاء النزاع. ومن هذا المنطلق، كيف يمكن إنهاء حرب اليمن، وهل بإمكان الهدنة أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى سلام دائم؟
حرب السلام الصعب
في منتصف مايو (أيار) الماضي، كتبت هنا مقالاً بعنوان “اليمن: حرب السلام الصعب”، قلت فيه إن السنة الثامنة للنزاع اليمني جلبت معها مقاربة جديدة للتحالف الذي تقوده السعودية، تكشفت بعض عناصره، وما زال مزيد من العناصر في طور المخاض، وستتكشف تباعاً لتحضير الأرضية اللازمة لإنجاح رؤية سعودية وخليجية وعربية لإنهاء النزاع اليمني.
وجاءت الهدنة ضمن إحدى المقاربات المهمة التي أنضجت السعودية ظروفها ونقلتها إلى مجلس الأمن وحازت إجماع الدول دائمة العضوية في المجلس، التي بدورها كلفت مبعوث الأمم المتحدة للعمل مع الأطراف اليمنية المعنية على تطويرها، وكلنا يعرف أن المبعوث الجديد هانس غروندبيرغ الذي تم تعيينه في أغسطس (آب) الماضي، كاد يفقد البوصلة في بحثه عن أفضل السبل لمباشرة السير في طريق حل الأزمة اليمنية، وحوّل مكتبه في عمان إلى ملتقى لحوار غوغائي بعيداً من الانخراط مع أطراف النزاع، وتحديداً الحوثيين الذين رفضوا استقباله، حتى جاءته الهدنة وبدأ عمله يلقى رواجاً، ولكن هل تنجح الهدنة؟
في الواقع أن الهدنة هي أفضل المقاربات الممكنة للصراع اليمني، لكنها ليست من المسلمات ويمكن أن تنتكس في الغد إذا ما استمر الشحن السياسي، والتمترس وراء خطاب الحرب على المستوى الإعلامي، والتحشيد العسكري على حاله، وتحديداً عدم تقدم الحوثيين خطوة واحدة باتجاه باقي شركائهم في الوطن، ممن سموهم “الطرف الآخر”، لكن وعلى الرغم من بعض الانتكاسات، خاصة ما يتصل منها بموضوع المعابر في تعز، كادت تمر أربعة أشهر من الهدنة انخفض فيها بشكل كبير مستوى التوتر في مناطق النزاع.
وفي مقالي سالف الذكر جددت قناعتي بأن يتقدم المبعوث الدولي ببعض الأفكار غير التصادمية والمتدرجة التي يمكن البناء عليها لتطوير مقاربات أكثر نجاعة وجاذبية لاستمرار الهدنة لفترة أطول في المرحلة القادمة، وهنا ينبغي التأكيد أن أفكار الهدنة على الورق قد تبدو معقولة كمدخل للتفاوض، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، وستكون هناك كثير من التفاصيل المزعجة لهذا الطرف أو ذاك في مواضيع مختلفة، مثل توفير الحد الأدنى من التنسيق بين أجهزة الحكومة في عدن وسلطة الأمر الواقع في صنعاء، ودفع المرتبات للعاملين في الخدمة العامة وغيرها من القضايا التي ستشملها الهدنة لاحقاً.
وقد تتواصل الهدنة لوقت طويل إذا ما توافق أطراف النزاع، وقد تنتكس ولا تصل بالضرورة إلى إعلان وقف الأعمال العدائية، لكنها تظل أفضل بكثير من الحرب العدمية المفتوحة، ومن الأهمية بمكان التركيز على أن تمديد الهدنة بحد ذاته لا يعني بأي حال من الأحوال أن السلام بات وشيكاً، بل قد يعني أن الأطراف قررت وضع النزاع ولو موقتاً على الرف، والنظر في البدائل المعروضة ومدى جاذبيتها. وبمجرد النظر في تجارب النزاعات في أفريقيا التي تتشابه كثيراً مع الحالة اليمنية، وتجربة النزاع الصومالي على وجه التحديد، يمكن التأكيد أن طريق التعافي من الحروب الأهلية طويل وشاق.
ويجب إدراك أن الهدنة في الحالة اليمنية لا تزال هشة، وهي بحاجة إلى دعم من المجتمع اليمني وقواه المدنية والسياسية في مختلف مناطق اليمن لتحصينها، كما أنها بحاجة لرعاية المجتمع الدولي الذي لا ينبغي له إضاعة هذه الفرصة السانحة وتقديم جميع أنواع المحفزات لليمنيين في الجوانب الإنسانية، وصولاً إلى الدعم الاقتصادي.
للسلام طريق طويل
ويمكن للهدنة أن تنهار كلياً أو جزئياً، وقد تُباشر الأعمال العدائية بين الأطراف المتنازعة داخلياً، دون أن تشمل تلك المواجهات الأراضي السعودية أو الإماراتية، أو الممرات الملاحية جنوب البحر الأحمر، بخاصة أن رؤية الحوثي لحل النزاع ترى أن خصومتها مع التحالف، ولا تعترف بوجود خصوم اليوم وشركاء الغد في الساحة الوطنية، من منطلق ادعاء حق الحوثي المطلق في تمثيل السيادة اليمنية. ولم يتقدم الحوثي حتى اللحظة خطوة باتجاه شركاء الوطن “الطرف الآخر”، وهو الطرف الذي يتمتع باعتراف المجتمع الدولي، الذي لا يمكن صناعة السلام المستدام من دونه.
كما أن هناك تيارات متطرفة تدور في فلك الحكومة اليمنية، ما زالت تحرض ضد الهدنة وضد السلام من منطلق قناعتها أن السلام سيمكن الحوثيين من حكم اليمن. وتمارس هذه التيارات التصعيد الإعلامي على أمل سقوط الهدنة، وعودة التحالف لدعم الخيار العسكري لتحقيق “النصر الكامل”، وهذا الطرف يحاول تجاهل رؤية السلام السعودية، وهو يعرف أن تجربة السنوات السبع الماضية أكدت فشل الخيار العسكري، لكنه يراهن على تكرار الفشل، الذي لا يمكن أن تراهن عليه دولة محورية في النظام الدولي كالسعودية.
وفي الوقت نفسه تقوم السعودية بدبلوماسيتها الهادئة والرصينة بالعمل مع الشركاء في مجلس التعاون وبقية الإقليم والعالم وفي إطار مجلس الأمن لتطوير الأفكار حول استمرارية الهدنة، والانتقال التدريجي لطرح مبادرات ما زال إنضاجها يحتاج إلى مزيد من الوقت، وهي ليست مقيدة بمواعيد زمنية لأن أي جهد من أجل السلام مهما طال مداه الزمني أفضل من ساعة حرب، مستفيدة من إجماع دولي منقطع النظير صنعته بعلاقاتها الدولية المتميزة مع الشرق والغرب في مرحلة عصيبة في العلاقات الدولية موسومة بالصراع الغربي مع روسيا.
وتبحث السعودية اليوم عن أفضل الوسائل لعكس حقيقة أن اليمن بلد محكوم بعدم الاستقرار، وأن مآلاته محسومة بمزيد من الحرب والدمار، وهي تبحث عما يمكن من التقريب بين الحوثيين وشركائهم في الوطن، بمساعدة شركائها في مجلس التعاون والإقليم والعالم. إن معادلة السلام في اليمن تبدو صعبة المنال، لكنها ليست مستحيلة أمام السعودية بحضورها الدولي الوازن.
ويبقى تحدي صنع السلام في اليمن مرهون بانخراط الحوثيين، وكيفية استيعاب بعض جوانب ما يطالبون به، مع ضمان ألا تقدم الحكومة على تنازلات تفقدها شرعيتها، وتؤدي إلى انهيار تأثيرها على الأرض. في الوقت الذي تترافق جهود السلام مع تزايد المخاوف التي يبثها أمراء الحرب من مغبة السير في المجهول وتسليم البلد للحوثيين بالسلام، بعد أن فشلوا في السيطرة عليها بالحرب. إنها معركة إغلاق صفحة سنوات الحرب الطويلة والبدء بالسير في طريق صنع السلام الصعب، فيما تهدد تيارات معروفة بمواصلة القتال بدعم من التحالف أو من دونه.