بقلم: يوسف بدر – النهار العربي
الشرق اليوم– عندما بدأت أذربيجان في أيلول (سبتمبر) 2020، تحرير مرتفاعاتها المحتلة من أرمينيا؛ تعالىَ الدعاء في مساجد تركيا نُصرةً للجيش الأذري المُسلم. وانطلقتْ الاتهامات بخطر إيران الشيعيّة التي تساند الجيش الأرميني المسيحي!
لكن الرواية الدينية ما هي إلا آفيونٌ للتخدير!، بينما المسألة تتعلق هنا بالجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) لإعادة رسم خريطة المنطقة، إذ إن أي تغيّر قد يقع في هذه الخريطة؛ ينعكس بشكل مباشر على الجغرافيا الاقتصادية. وبذلك، فإن هذه الحرب كانت من أجل إعادة ترتيب حدود منطقة القوقاز؛ لأن هناك قوى تريد ذلك من أجل الولوج إلى عمق آسيا عبر هذه المنطقة. وهذا ما يفسر، لماذا وقفت تركيا إلى جانب أذربيجان، وإيران إلى جانب أرمينيا.
بوابة الحدود
بالنسبة الى تركيا، لا يمكن لها الدخول إلى منطقة القوقاز وما بعدها، إلا من خلال أرمينيا على حدودها الشرقية، بطول 311 كلم. بينما هناك خصومة تاريخية مع هذا البلد.
وهناك طريق آخر، عبر حدودها الشرقية مع جمهورية نختشفيان الذاتية الحكم، بطول حدود 8 كلم. وهذه الجمهورية تابعة لأذربيجان، لكنها منفصلة عنها حدودياً، فتضطر تركيا بعدها إلى دخول الأراضي الإيرانية، حتى تصل إلى حليفتها أذربيجان.
إذن، حرب تحرير مرتفعات ناغورني كراباخ، كانت من أجل ربط إقليم نختشفيان بالدولة الأم أذربيجان؛ لتعبر التجارة التركية مباشرة إلى منطقة القوقاز وبحر قزوين.
وبالنسبة الى إيران، فإنها تستفيد من خصومة أرمينيا مع أذربيجان وتركيا؛ من أجل التصدي للطموحات التركية وخططها لتغيير الجغرافيا السياسية في منطقة القوقاز.
وأيضاً، تراهن على أذربيجان ذات الأراضي السهلة على عكس جارتها أرمينيا، في الوصول إلى شمال بحر قزوين وروسيا وجورجيا؛ ومن ثَمّ الاقتراب من الصين شرقاً ومن أوروبا الشرقية غرباً.
لهذا، فقد سعتْ تركيا لدفع أذربيجان إلى معركة جانبية مع إيران حول حدود نهر آرس؛ لتنشغل الأخيرة بالتغييرات الجيوبوليتيكية داخل القوقاز. لكن طهران واجهت هذه الضغوط بتهديد باكو بإخراجها من خريطة التجارة والترانزيت معها نحو روسيا وأوروبا.
وقوع متغيرات
لقد أدى وقوع الحرب في أوكرانيا إلى انتعاش حركة التجارة مع أوروبا والصين عبر إيران وتركيا. وتزامناً مع هذه الحرب كان رئيس أذربيجان، إلهام علييف، قد سعى إلى إلى تفعيل نتائج وقف إطلاق النار مع أرمينيا، بمنح أذربيجان منفذاً برياً وهو ممر “زنكه زور” لربطها بإقليم نختشفيان.
ويبدو أن الإيرانيين قد غيروا رأيهم بعد معارضةٍ؛ فقد وافقوا على تفعيل هذا الممر الأوراسي شرط أن تكون إيران جزءاً منه، وأن يتم ربطه بممر شمال-جنوب، الذي يربط جنوب إيران بشمالها.
والزيارة التي قام بها وزير الطرق الإيراني، رستم قاسمي، الى أذربيجان، آذار (مارس) 2022، كانت للتوقيع على اتفاق إحياء ممر “زنكه زور” بمشاركة إيران.
أيضاً، الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأذري، جيحون بايراموف، لطهران في 4 تموز (يوليو) الجاري، دلتْ إلى نجاح السياسة الإيرانية في التعامل مع أذربيجان، فقد جاءت تمهيداً لزيارة الرئيس الأذري إيران.
وقد قال وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، خلال هذه الزيارة: “لقد تجاوزنا مرحلة سوء التفاهم”؛ ما يعني أن البلدين يؤكدان عودة العلاقات إلى طبيعتها بما في ذلك التفاهم على حول نهر آرس. فقد اتفق البلدان على إنشاء سدود ومحطات لإنتاج كهرباء مشتركة على هذا النهر المشترك؛ بما يمنع وقوع الخلاف بينهما مستقبلاً.
تثبيت الجيوبوليتيك
بعد التحولات الجيبوليتيكية التي وقعت بعد حرب تحرير مرتفعات ناغورنو كراباخ، سارعتْ تركيا الى التطبيع مع أرمينيا لجني ثمار هذا التحول. فقد اتفق البلدان، مطلع تموز (يوليو) الجاري، على فتح الحدود البرية والجوية بين البلدين. كما دعا وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، إلى استضافة العاصة الأرمينية، يريفان، محادثات الحوار والتطبيع بين البلدين.
لقد أحدثت هذه الحرب حالة من التعادل بين أذربيجان وأرمينيا، وهو ما أدى إلى مسارعة كل من إيران وتركيا نحو البلدين؛ لتأكيد تثبيت الجيوبوليتيك خشية من الإضرار بالمصالح والخطط المستقبلية المبنية على العلاقات مع هذين البلدين المتعادلين. فهناك تسارع على الطاقة القادمة من منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. فضلاً عن حركة التجارة والترانزيت من الصين نحو أوروبا، عبر الممرات التجارية الجديدة.
والزيارة التي قام بها مسؤول الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني لأرمينيا في 7 تموز (يوليو) الجاري، تدل الى استمرار القلق لدى طهران من أي تحول في الجيوبوليتيك بما يضر مصالح إيران. كما أكد شمخاني رفض طهران أي إجراء يؤدي إلى تغيير في الجغرافيا السياسية للمنطقة.
وتأتي هذه المخاوف، بعدما أعلن وزير الخارجية الأذري، من طهران، أن “أذربيجان تسعى إلى تطبيع العلاقات مع أرمينيا بعد انتهاء الحرب بينهما”. وذلك وسط ترتيبات إيرانية لعقد قمة 3+3، لتسوية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا خلال اجتماع مرتقب لوزراء خارجية أذربيجان وأرمينيا وجورجيا + روسيا وإيران وتركيا.
وتصر إيران وروسيا على هذه الصيغة لمنع التدخل الغربي في منطقة القوقاز، بخاصة أن مجموعة “مينسك” التي تشكلتْ لإدارة الحل بين أذربيجان وأرمينيا، والتي تشارك فيها كل من فرنسا والولايات المتحدة، تمثل مساحة للتدخل الغربي في هذه المنطقة. كما أن ترسيم الحدود واستقرارها بين أذربيجان وأرمينيا، سيكون من خلال صيغة 3+3. أي أن الدول ذات العلاقة والمصالح ستكون مشاركة في هذا الترسيم.
والأمر لا يقتصر على إيران، فإن دولة مثل جورجيا، لديها مخاوف أيضاً من تأثير ربط الأراضي الأذرية عبر ممر “زنكه روز”، على مصالحها الاقتصادية؛ إذ كانت أراضي جورجيا تمثل حلقة وصل مهمة في التجارة بين إيران وروسيا وتركيا، ومن ثَمّ أوروبا. والآن يمكن أن يؤدي هذا التحول في الجيوبوليتيك إلى إخراجها من هذه المعادلة.
ولذلك، لدى إيران هدف كبير، وهو تحويل هذه الصيغة 3+3، إلى منتدى تعاون إقليمي، يضمن لها تنظيم المصالح بين دول منطقة القوقاز وجوارها، في إطار دعم الصعود الأوراسي، من دون اخراجها من هذه المعادلة.
المحصلة
أهمية ممر “زنكه زور” متعددة، إذ سيكون طريقاً مركباً لنقل الطاقة عبر الأنابيب، مع وجود خطوط سكك حديد وطريق بري لنقل الشاحنات التجارية. وسيلعب هذا الممر دوراً في التعاون الأوراسي.
ولا تتوقف أهمية ممر “زنكه زور” على المسألة الاقتصادية؛ بل إن الطريق بات مفتوحاً أمام تركيا نحو البلدان التركية في آسيا الوسطى، لدعم مشروع الأمة الطورانية.
ستظل تراهن إيران على أهمية موانئها الجنوبية وممراتها التجارية، وحاجة دول الشمال للوصول إلى الجنوب من خلالها، في إدارة خريطة الترانزيت والممرات التجارية بما يخدم مصالحها. فقد بنتْ إيران مشاريعها المتعلقة بممرات التجارة على وضع جيوبوليتيكي ترفض تغييره.
إن مخاوف روسيا وإيران من نتائج إقامة ممر “زنكه زور”، ستظل باقية؛ لأن هذا الممر ليس فرصة فقط لوصول تركيا بشكل مباشر إلى بحر قزوين ودول آسيا الوسطى، ومنافسة النفوذ الإيراني والروسي. وإنما قد يكون بداية لتحول في السياسة الأذرية التي تعتمد على التوازن في العلاقات الخارجية، لتقترب أكثر من القوى الأوروبية، ومن ثمَ الانضمام الى الحلف الأطلسي، الذي سيكون هذا الممر فرصة له للوصول إلى بحر قزوين، والحدود الصينية.
إن أرمينيا تراهن على إيران في تحقيق التوازن أمام أذربيجان وتركيا، وهذا ما يساعد طهران على إدارة مصالحها ضمن معادلة 3+3. إذ تشترط يريفيان من أجل إتمام ممر “زنكه زور”، أن تحصل على ممر “لاتشين” لربط أراضيها في منطقة كراباخ.