بقلم: عمّار الجندي – النهار العربي
الشرق اليوم – “لقد طفح الكيل”، ولم يعد السكوت ممكناً على بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، قال ساجد جاويد، وزير الصحة السابق في 5 تموز(يوليو) الجاري في مجلس العموم بعد استقالته من الحكومة. وسرعان مافتح رحيله هو وريشي سوناك وزير المالية السابق الذي استقال في الوقت نفسه، الباب على تمرد انفضّ في غضون يومين من اندلاعه أكثر من خمسين وزيراً ووزير دولة وسواهم من المسؤولين، من حول ” المهرج” جونسون، المتهم بتمريغ سمعة حزبهم بالوحل، والذي لا يستطيع التوقف عن تكرار أخطائه الجسيمة.
ليست كلمات جاويد مثل “الرصاصات” التي وجهها جيفري هاو نائب رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر عام 1990 وكانت المسمار الأخير في نعش زعامتها. فتاتشر احترمت نفسها، الأمر الذي حملها على الإسراع بالخروج من الحكم نهائياً، حالما أدركت أنها قد فقدت ثقة حزبها. أما جونسون، الذي يعتبرها مثله الأعلى، فمانع، وهاج وماج، قبل أن يتنحى عن زعامة الحزب الحاكم صباح 7 تموز (يوليو)، موضحاً أنه سيبقى رئيساً للحكومة إلى حين انتخاب الزعيم البديل. والأمل أن يلتزم ذلك، فكثيراً ما كانت وعوده أشبه بقبض ريح.
لم ينفعه ذكاؤه الحاد، واعتذاره، في النجاة هذه المرة، كما فعل في مناسبات شتى. والحق أن ثمة اجماعاً على أنه زعيم مؤثر، له شخصية محببة غير مألوفة. كما أثار الإعجاب حين دخل 10 داونينغ ستريت في تموز 2019 بعدما قاد المحافظين إلى فوز كاسح في الانتخابات بأغلبية 80 مقعداً لم يحققوا مثلها منذ 1989. لم يردّ حينذاك محازبوه هذا الإنجاز الى ركوبه موجة البريكست التي قامت على الأكاذيب، وإلى أن جيرمي كوربن، الشيوعي للغاية، كان زعيم حزب العمال، ما جعل كثيرين يصوتون لجونسون بوصفه “أقل الشرين” على الرغم من مساوئه. لكن لو سألت محازبيه الآن عن سبب وصول الثورة الحالية ضده إلى هذا الحد غير المسبوق، لقال كثيرون منهم، إنه يكمن في الدرك غير المسبوق الذي هبط إليه جونسون خلافاً لجميع رؤساء الوزراء السابقين من حزبه وغيره.
عصفت الفضائح بولايته. فمن بارتي غيت” التي جعلته أول رئيس وزراء بريطاني على رأس عمله تتم إدانته بانتهاك القانون ومعاقبته بغرامة، إلى قصص المحسوبيات السائدة في تعامله مع عقود توريد لوازم مكافحة جائحة كورونا، والفساد الذي تجلى في تجديد شقته وقضائه إجازة خارجية على حساب رجل أعمال، فعدم الكفاءة الذي حمله على التأخر بتنفيذ الإغلاق في بداية الجائحة ما أدى إلى وفاة مئات الآلاف بلا مبرر.
وكأن كل هذا لم يكن كافياً، حتى يعيّن النائب كريس بنشر في منصب يعادل وزير دولة، على الرغم من معرفته المسبقة بفضائحه لجهة الإفراط في الشراب ومحاولة التحرش برجال. وكانت هذه الغلطة بألف، قال كثيرون عند انكشاف أمرها، “لقد طفح الكيل”.
وعلى الرغم من الثورة التي تتأجج، لا يزال رئيس الوزراء المنتهية ولايته، يمعن في الإنكار. لذا اثارت كلمته ” الوداعية” انتقادات حادة، إذ ادعى فيها تحقيق إنجازات باهرة قبل أن يسقط ضحية لغدر “القطيع” في حزب المحافظين، رافضاً أن يعتذر عن فضائحه التي شوهت سمعة الحزب.
هذا الزعيم الذي يظن أنه دائماً على حق، يعيد إلى البال بقوة دونالد ترمب. والحال إن ثمة تشابهاً كبيراً بينهما لجهة الشعبوية الفاقعة، والعداء المزعوم للحقيقة، والأنا المتورمة. إلا أن جونسون يختلف عن صديقه لجهة العلاقة مع فلاديمير بوتين الرئيس الروسي. فسيد الكرملين متهم بتعبيد طريق البيت الأبيض لترامب، لكنه العدو اللدود الذي سعى جونسون إلى شنّ حرب لفظية مفتوحة ضده، حتى قبل غزوه أوكرانيا.
حزنت أوكرانيا لرحيل صديقها المفترض. وربما لم يخطر لها أنه استخدمها لتبييض صفحته في بريطانيا واتخذها ذريعة للتهرب من الصعوبات التي سدّت المنافذ في وجهه هناك. واللافت أن دعم جونسون المتحمس لكييف نفعه، إذ يعده مواطنوه واحداً من حسناته القليلة.
ومن جانبه، ابتهج العالم، أو معظمه، لغياب جونسون الوشيك. فهذا جو بايدن “زعيم العالم الحر” لا يتكبد حتى عناء ذكره بالاسم في البيان الذي أصدره البيت الأبيض بمناسبة استقالته للتأكيد على العلاقة الراسخة بين البلدين. وها هي أوروبا، تجد في رحيل الرجل الذي حرمها من بريطانيا وحرم بريطانيا منها، بادرة تدعو الى التفاؤل بعلاقات أكثر استقراراً مع لندن ملؤها الصدق، متمنية أن يلتزم رئيس الوزراء البريطاني الجديد الاتفاقات الدولية، وخصوصاً بروتوكول إيرلندا الشمالية الذي أراد جونسون التراجع عنه ضارباً عرض الحائط بالقانون الدولي وبسمعة بلاده.
أما بريطانيا، فما بعد جونسون لن يختلف كثيراً عما قبله، ولو مؤقتاً، ذلك أن “البصمات” التي تركها في ثلاث سنوات لن تمحي في عقود، على الأرجح. والبريكست الذي اتخذه أداة للوصول إلى السلطة، باق لزمن طويل وكذلك الضرر العميق الذي ألحقه بعلاقات بريطانيا مع أوروبا وباقتصادها.
وهذا القومي حتى النخاع، كما يقول، وضع المملكة المتحدة على شفير التفكك، بسبب البريكست الذي صنعه. فتخبطه في رسم معالم العلاقة الجديدة بين إيرلندا الشمالية وبريطانيا، بات يهدد بنسف “اتفاقية الجمعة العظيمة”، وانفصال الإقليم عن المملكة المتحدة. لكن من المرجح أن اسكتلندا ستسبقها في ذلك، فهي تغذّ الخطى بحماسة نحو الاستقلال الذي شجعها عليه من جديد البريكست.
سقطت الزعامة المبنية على نوستالجيا الامبراطورية التي لا تزال تعشش في أذهان كثير من المحافظين مثل جونسون الذي توقع ذات يوم أن الرئيس باراك أوباما يكره بريطانيا بسبب أصول أبيه الكينية ما يعني حقده على الاستعمار، وعلى أوهام التفوق والغرور الذي يدفعه إلى الاعتقاد بأن له “حق إلهي” في السلطة، كما لفتت بيترونيلا وايات صديقته السابقة.
لكن حزب المحافظين الذي أوصله إلى السلطة، قد ينتج آخرين مثله. والواقع أن رائحة الفساد تفوح من عدد من المرشحين ، بينما يبدو عدم الكفاءة وغياب الرؤية ملازمين لبعضهم الآخر. هكذا ربما يذهب الزعيم الحقيقي وتبقى نسخة مصغرة عنه، ربما من دون خفة الدم واللغة الباهرة، على قمة السلطة في لندن.
وقد يجد جونسون بعض العزاء في عالم شكسبير. فهو يعتزم استئناف العمل على كتاب له عن العبقري الذي تزدان مسرحياته بمهرجين يشبههم رئيس الوزراء بذكائه الممزوج بحس مرهف بالمرح، لكنه محروم من حكمتهم العميقة. وهو سقط في النهاية ضحية الخلل الجوهري في شخصيته، كأبطال شكسبير التراجيدين.