بقلم: ياسر قبيلات – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – يبدو على نحو واضح أن المتغيرات العالمية، الجارية اليوم، تتجلى بأوضح ما يكون على الساحة الأوروبية، أكثر من غيرها، لا سيما أن هذه المجريات تُذكّر، على نحو استثنائي، بكلام استشرافي قيل في منطقتنا قبل سنوات، يتضمن توقعات بالازدهار. وأن الشرق الأوسط سيكون أوروبا العالم الجديدة. من اللافت أن هذه الرؤية استندت إلى اعتبارات عدة، منها مثلاً أن أية حرب مقبلة ستجري رحاها بعيداً عن منطقتنا، وستدور في أماكن أخرى، وعلى وجه الخصوص في أوروبا، أو جنوب شرق آسيا، ما يمنح غرب آسيا وبلدان أفريقيا فرصة ثمينة في التقاط دور ريادي ينعش التنمية فيها، ويهيئ ظروفاً لاستقرار منتج، يتيح لها دوراً دولياً وازناً، وريادة عالمية.
في الواقع، نشاهد اليوم في أوروبا قابلية هائلة للتعرض لاستنزاف اقتصادي اجتماعي هائل، ينبئ بخسارة بلدان القارة العجوز قائمة أساسية من الأفضليات العالمية، على مستويات الدور السياسي العالمي والريادة الاقتصادية والقيادة الثقافية للمجتمع الدولي. وهذا دون أن نرى، في الأثناء، أياً من مظاهر حس المبادرة السياسية، التي يمكنها أن توقف مسار الأحداث، أو تعيد توجيهها في منحى آخر.
وفي الوقت ذاته، تنصب التوقعات المستجدة على أن بلدان أوروبا، ستغرق في مزيد من التضخم، وما هو أسوأ من مظاهر الانهيار، وتداعي البنى الاقتصادية والسياسية، وصولاً إلى تعطل الإنتاج وارتفاع الأكلاف الاجتماعية للسياسات العامة، والدخول في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية، التي ستقود إلى تغيير النخب السياسية، واهتزازات كبيرة في المعادلات والبنى الاجتماعية التي تصنعها. بل وتخلق تحولات واستبدالات راديكالية في البنى الأيدلوجية الفاعلة.
إن مثل هذه التوقعات، بحجم التغييرات الذي تنذر به، يضع العالم أمام واقع جديد، لا تعود فيه أوروبا بيئة استقرار عالمي، ولا حجر زاوية في النظام الدولي. بل ينبئ، على العكس من ذلك، بتحول القارة العجوز وبلدانها إلى بؤر توتر ومناطق اضطرابات متوسعة. وهذا يعني، في كل الأحوال، نشوء فراغ دولي هائل، يحتاج إلى من يملأه، ويشغل مساحاته؛ فمن سيفعل؟
في اللوحة الماثلة، هناك مرشحان أساسيان للقيام بهذه المهمة الدولية، والإفادة من هذه الفرصة الاستثنائية: الأول، هي تلك الدول التي ستنجو من التورط في أي حرب مقبلة، محتملة. والثاني، هي الدول المنتصرة في تلك الحرب المفترضة.
وهنا، تبرز حقيقة أساسية تتمثل في أن ارتدادات أي حرب، ونتائجها، ستبقى معطلة إلى حين تهدأ المعارك في الميدان. وحينها فقط يمكن التيقن من المسارات الجديدة، التي ستأخذ مكانها في العالم. وإلى ذلك الحين، فإن أية مكاسب متاحة، هي مجرد عوارض جانبية غير دائمة، ومحدودة الأفق، تتغذى على متطلبات الميدان، لا على حاجات المجتمعات.
وبالعودة إلى السؤال حول الفراغ العالمي، من الواضح أن نتائج الحروب تأتي دائماً في خدمة المنتصرين، الذين سيعيدون صياغة النظام الدولي، وفق رؤاهم ومصالحهم، وبما يعوض خسائرهم في الحرب، ويضمن نهضة اقتصاداتهم ومجتمعاتهم.
ومن جهة أخرى، يبدو صحيحاً أن الدول التي تنجو من التورط في الحرب ستتمتع بعافية تمكنها من التكيف والإفادة من الواقع الجديد أكثر من سواها، ولكن لا يبدو أن هذا يمكنه أن يجعل منها المستفيد الحصري، وجاني الأرباح الأول. أو أن يجعل من هذه المكاسب نتيجة حتمية وتلقائية.
في الواقع، إن إفادة هذه الدول من نتائج أية حرب تقترن بقدرتها على التكيف مع الأعباء، التي ستخلفها نتائج أي حرب مقبلة. لا سيما أن السيناريوهات التي تتحدث عن خروج أوروبا (والغرب) من المعادلة، سيلقي بظلاله القاتمة على أغلب بلدان العالم الثالث، التي عاشت على معادلات نظام دولي يقوم على الهيمنة الغربية، وتمثل فيه هذه الهيمنة الوعاء الحاضن الأساس، الذي تتحرك فيه السياسات والاقتصادات.
وبالمقابل، تقتضي الاستفادة من نشوء عالم ونظام دولي جديد، من هذه الدول، إعادة تموضع شاملة جديدة، لا تبدو سهلة، ولا ميسورة، وتقتضي إعادة النظر في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التقليدية. بينما هذه الدول، وجلها من دول العالم الثالث، لا تزال تقف معطلة الإرادة أمام ملفات مفتوحة، غير منجزة، على هذه الصعد كلها.
إن ما تراه العين في نظرتها على أوروبا، يفيد بفداحة غياب حس المبادرة في السياسة الأوروبية، ويُظهر الكلفة الباهظة الناجمة عن الافتقار إلى القدرة على التقاط اللحظة التاريخية الماثلة، وأثر ذلك الكارثي على مستقبل بلدان القارة.
وفي هذه اللحظة، التي يبدو فيها جلياً أن أوروبا تتجه إلى باب الخروج من التاريخ، هل تهتدي بلدان العالم الثالث الصاعدة، وقواه الإقليمية، إلى بوابة استئناف الحضارة..؟
ذلك هو السؤال، الذي تطرحه نظرة عين فاحصة على أوروبا.