بقلم: فارس خشان – النهار العربي
الشرق اليوم – قبل أن تسقط سريلانكا في الجحيم، كانت عائلة ” راجابكسا” قد أحكمت سيطرتها على السلطة: الشقيقان غوتابايا وماهيندا يتوليان، تباعاً رئاستَي الجمهورية والحكومة، فيما أبناؤهما وأنسباؤهما يسيطران على وزارات مهمة ومقاعد نيابية عدّة ومناصب قضائية أساسية وإدارات محورية.
ولم تكن هناك قوّة حقيقية قادرة على التصدّي لهذا “الاجتياح العائلي”، فغوتابايا “بطل الانتصار” على “نمور التاميل”، واضعاً بذلك حدّاً لحرب أهلية استمرّت خمساً وعشرين سنة، وصاحب شعارات القضاء على الإرهاب الذي ضرب الجزيرة، بقوة، في العام 2019، لا يرضى أن “يُزايد عليه أحد” من “الجبناء” و”العملاء” و”المدسوسين”، فهو “الرئيس القوي” و”المقاوم الصنديد” و”ضامن المستقبل” و”محرّر الوطن”.
الأهم من ذلك أنّ هذه “الطغمة العائلية” لم تكن وحدها، فالصين دخلت على خط الدعم بقوة، وجعلت سريلانكا محطة رئيسة في “طريق الحرير الجديد”(مبادرة الحزام والطريق)، فقدّمت لها ما تحتاجه من قروض لبناء مشاريع ضخمة للغاية معظمها “لا ضرورة لها”، في المنطقة التي تتحدّر منها “العائلة الحاكمة”، كما أقرضت، بضمانة الدولة، شركات ومصارف “مدعومة”، الأمر الذي دفع الهند إلى الدخول في المنافسة، على الرغم من قلقها العميق من نوعية الإستثمار، وذلك حتى لا تستفرد الصين بهذه الجزيرة الإستراتيجية.
وفيما كان الفساد المستشري يسيطر على البلاد ومشاريعها، تراكمت الديون الخارجية إلى مستويات خطرة، وأصبحت موارد الدولة لا تكفي لسداد فوائد هذه الديون، الأمر الذي سرعان ما تفاقم مع انتشار جائحة كورونا التي قطعت الموارد السياحية وأضعفت تحويلات السريلانكيين المنتشرين في العالم.
وطالب الخبراء الاقتصاديون القيادة السريلانكية باللجوء إلى “صندوق النقد الدولي” لإيجاد علاجات مستقرة لمخاطر ضخمة بدأت تُهدّد الأمن الغذائي في البلاد، ولكنّ “العائلة الحاكمة” وجدت خلاصها مجدّداً في الصين، حيث راحت تقترض منها المبالغ التي تُسدّد بها فوائدها، بضمانات سيادية، الأمر الذي أتاح لبكين، لاحقاً، أن تمتلك المرافق والمرافئ التي كانت قد بنتها كولومبو بقروض منها.
وطبقت “العائلة الحاكمة” برنامجاً شعبوياً إنتهى إلى كارثة حقيقية، كما هي عليه حال ما سمّي ببرنامج “الإصلاح الزراعي”.
ولم تكترث سريلانكا للعقوبات على إيران، فعزّزت التعامل التجاري معها، حتى أصبحت مديونة لها هي الأخرى، الأمر الذي اضطرّها أن تُرسل، سنوياً، كمية كبيرة من الشاي إلى طهران.
وحين وقعت الكارثة، لم تستطع كولومبو أن توفّر الحدّ الأدنى من حاجاتها الملحّة من إيران التي كان مسؤولوها قد دأبوا على تكرار كلام عن استعدادهم لتزويد الحكومة السريلانكية بكل ما تحتاجه وينقص شعبها.
وأوصل هذا النهج البلاد إلى أزمة خانقة: أوقفت تسديد القروض، اقتصدت في الإستيراد، سلّمت إدارة السلع الأساسية إلى جنرال موال للعائلة الحاكمة.
ودخل الشعب السريلانكي المتواضع في واحدة من أقسى أزماته على الإطلاق، ولمّا لم تعد الصين وسائر الدول المدينة تساعد كولومبو، جرى اللجوء إلى “صندوق النقد الدولي” الذي وجد في البلاد فساداً نوعياً يستحيل، في ظلّه، استثمار أيّ مبلغ، إذا لم تنطلق ورشة إصلاحية ضخمة حيث يتداخل الإصلاح الاقتصادي بالإصلاح السياسي.
وانطلقت ثورة الشعب على العائلة الحاكمة.
الرئيس السريلانكي ضحّى بشقيقه رئيس الحكومة، في التاسع من أيّار/مايو الماضي لمصلحة شخصية مستقلة لا وزن سياسياً لها، ولكنّ الثوّار أصرّوا على المطالبة برأس رئيس الجمهورية، فهم لن يرتضوا تغييب مسؤولية “المجرم الأكبر” بواسطة “حكومة دمى”.
ونشطت المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية والميليشيات الموالية في حماية هذا الرئيس، فجرى صدّ الثوار الذين ركّزوا جهودهم على محيط مقرّ إقامته، مراراً وتكراراً، إلى أن وجد نفسه، أمس يهرب ليختبئ في مكان مجهول.
اللبنانيون يعرفون سريلانكا جيّداً، سواء من خلال فئة من مواطنيها عاشت في منازلهم وشاركت في تنشئة أولادهم، أو في ضوء رحلاتهم السياحية إليها، أو بفضل طنّين إثنين من الشاي أرسلهما رئيسها إلى رئيس جمهوريتهم ميشال عون، في حمأة الثورة اللبنانية ضدّ الطبقة السياسية، فوزّعها، كما قيل يومها، على لواء “الحرس الجمهوري”.
ولم يعد بعيداً ذاك اليوم الذي يمكن أن يُواجه فيه اللبنانيون المصير الذي يواجهه، راهناً الشعب السريلانكي.
في مكان ما، ما من فارق جوهري بين نوعية الحكّام في كولومبو ونوعيتهم في بيروت، فإذا كانت العائلية سيطرت على سريلانكا، فهي تسيطر، ولكن بطريقة أخرى، على لبنان.
وكما في سريلانكا كذلك في لبنان، فإنّ “أبطال” الحروب يتوهّمون أنّهم قادرون على امتلاك المناصب والمنافع والموارد ومصير الناس.
وعلى الطريقة السريلانكية، فإنّ “الطارئين” على عالم المال والإقتصاد، باعوا اللبنانيين، لسنوات، أوهاماً بأنّ الحل يكمن بالتوجّه شرقاً، إذ افترضوا أنّ النيران التي ينفثها التنّين، هي ألسنة الروح القدس المحيِية، وضغطوا حتى لا تتمّ الإستجابة لخريطة الطريق التي بدأ المجتمع الدولي يرسمها لإنقاذ لبنان، منذ مؤتمر “باريس-1″ حتى مؤتمر” سيدر”، ولم يبقوا صفة ذميمة إلّا وأطلقوها على “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” والدول الصديقة للبنان.
وعلى غرار الطبقة الحاكمة في سريلانكا، تمّ فصل المسؤولين عن الشعب بواسطة القوات المسلحة والقوى الأمنية والميليشيات الموالية.
وكما في سريلانكا كذلك في لبنان، جرى توسّل كلّ الموبقات في الانتخابات النيابية التي أنتجت مقاطعة كبيرة هنا، ومجلساً لا يعكس الإرادة الشعبية هناك.
حتى تاريخه، وعلى الرغم من المآسي التي تعصف بلبنان، لم تصل أوضاع اللبنانيين، أقلّه على مستوى السلّة الغذائية، إلى المستوى الذي وصلت إليه سريلانكا، لكنّ نهج استنزاف احتياطي “مصرف لبنان” وإدارة شؤون الدولة والتعاطي مع المسائل السيادية، إذا ما تواصل، فإنّ الخريف اللبناني المقبل، سوف يكون صاعقاً.
قد يكون على اللبنانيين، في ضوء التشابه الكبير بين تجربتهم، من جهة والتجربة السريلانكية، من جهة أخرى أن يستعجلوا الاستجمام في أحواض المقرّات الرسمية، بدءاً بالقصر الجمهوري، قبل أن يضطروا لفعل ذلك، بعد نفاد الفرصة الأخيرة.
ويستحيل، في الوقت نفسه، الطلب من المسؤولين اللبنانيين أن يتّعظوا من تجارب نظرائهم هنا وهناك، فهؤلاء يتعاطون مع أنفسهم، كما لو كانوا من نوعية بشرية أخرى، ولهذا، يجدون، مثلاً، أنّه، فيما شعبهم يئن، لديهم ما يكفي من وقت ليختلفوا على تشكيل حكومة، وليُهدّدوا بشنّ حروب، وليتفنّنوا في هدر وقت التنقيب عن الغاز، والتوصّل إلى اتفاق مع “صندوق النقد الدولي”، وتحرير قطاع الكهرباء من “صراع الفئران”، ووقف التهريب.