بقلم: أسعد عبود – النهار العربي
الشرق اليوم- الغريب أن القادة الأوروبيين يذهبون في اتجاه معالجة تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، ويتجنبون الإنخراط في معالجة الأمر الأساسي ألا وهو العمل على وقف الحرب. وها هي ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا، على رأس الدول التي يجتاحها تضخم لا سابق له منذ عقود ويهدد قطاعات اقتصادية رئيسية فيها بينما لم تصل بعد إلى فصل الشتاء.
ومع ذلك، لا تفعل هذه الدول ما يكفي لوقف الحرب من طريق الدبلوماسية، واختارت المضي في تسليح أوكرانيا أملاً في قلب المعادلة الميدانية، التي تميل حتى الآن لمصلحة روسيا، لا سيما بعد إحكام السيطرة على إقليم لوغانسك بينما تفرض سيطرتها على 60 في المئة من إقليم دونيتسك المجاور.
وكل الأنظار تتجه الآن إلى ما بعد الشرق الأوكراني، ولا تلوح في الأفق أي بارقة أمل بالتوصل إلى تسوية سياسية. وكل ما تفعله الدول الأوروبية الآن هو البحث عن بدائل لموارد الطاقة الروسية وفرض المزيد من العقوبات على روسيا وتزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة.
لكن كل هذه الإجراءات لا تساهم إلا في إطالة أمد الحرب، مع كل ما يمكن أن ينجم عن ذلك من مخاطر توسيع دائرة القتال إلى خارج أوكرانيا. وقد بدأت ترتسم في الأفق في الأيام الأخيرة معالم مواجهة روسية-ليتوانية، نتيجة وقف حكومة فيلنوس الإمدادات الروسية إلى جيب كالينينغراد الواقع بين ليتوانيا وبولندا، وفي المقابل يهدد الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو، بأن بلاده سترد على ما وصفه بقصف طاول الأراضي البيلاروسية مصدره أوكرانيا. وهو كان حصل على تعهد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتزويد مينسك بصواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية، في مواجهة ما يراه الحليفان إستفزازات من بولندا وجمهوريات البلطيق.
زد على ذلك، أن المستشار الألماني أولاف شولتس الذي تشهد بلاده موجة تضخم غير مسبوقة، يذهب بعيداً في رصد مقدرات جديدة لبناء ما وصفه بـ”أكبر جيش في أوروبا” لمواجهة تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية واختلال موازين القوى في القارة الأوروبية على نحوٍ هو الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية.
وقرر حلف شمال الأطلسي رفع قواته الجاهزة للقتال من 40 ألفاً إلى 300 ألف في غضون الأشهر المقبلة، للرد على احتمال توسع الحرب وحماية دول أوروبا الشرقية وجمهوريات البلطيق من غزو روسي محتمل.
إذن، تتجه أوروبا إلى العسكرة ويغيب صوت الدبلوماسية، ما يضع القارة مرة أخرى على شفير كارثة جديدة. ويعتقد القادة الأوروبيون أن التشدد حيال روسيا وزيادة تسليحهم لأوكرانيا وإنفاق المزيد على الموازنات العسكرية، من شأنها أن تبعث برسالة واضحة إلى موسكو، ألا وهي أن أوروبا غير مستعدة للاعتراف بالأمر الواقع الذي نجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وأنه لا بد لروسيا من التراجع إلى خطوط 24 شباط (فبراير) قبل بدء أي حوار جدي معها.
لكن الموقف الأوروبي يقفز عن الواقعية السياسية ويذهب نحو المخاطرة بتوسيع النزاع وتدحرجه نحو حرب عالمية ثالثة، بدأ البعض يتحدث عنها وكأنها نتيجة طبيعية للتطورات الأوكرانية.
أوروبا، تقف اليوم عند مفترق طرق. والمغالاة في اعتماد الخيار العسكري وحده للرد على روسيا، لن يوصل إلا حرب أوسع وجلب أهوال جديدة على القارة وتالياً على العالم الذي بدأ يعيش إرهاصات أزمة جوع تهدد عشرات ملايين الناس، لا سيما في الدول الأكثر فقراً.
والأمر الآخر، الذي يتعين إدراكه هو أن إطالة أمد الحرب لا يستنزف روسيا وحدها، إنما يهدد أوروبا كلها، بينما آثار العقوبات الشاملة وغير المسبوقة التي فرضها الغرب على روسيا، في حاجة إلى سنوات كي يسري مفعولها، ومن يدري عندها كم ستتغير خرائط وتنزاح حدود وكم من الخسائر البشرية والمادية التي سيتكبدها الجميع قبل الحبث عن تسوية سياسية.