بقلم: توم ماكتاغو
الشرق اليوم- أثارت الحرب الأوكرانية مخاوف أوروبا حول ما تؤمن به أمريكا، والقصة التي تعتقد أنها مهمة. وبالنسبة للمسؤولين والساسة في أوروبا، فإن الخوف الذي يثيرهم، عندما ينظرون إلى الحرب في أوكرانيا، وماذا سيحدث لو فقدت الولايات المتحدة اهتمامها.
فعلى الرغم من أن الحرب هي أوروبية، وتشترك فيها قوى أوروبية، وبتداعيات مهمة على أوروبا، إلا أن أمريكا تظل شريكا مهما في أوكرانيا. وبالنسبة لدول أوروبا الشرقية والإسكندنافية وبريطانيا، بالتحديد، فالحرب في أوكرانيا خاسرة لو لم يكن الدعم الأمريكي فيها أصيلا وضروريا لما تبقى من النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
وبالنسبة للآخرين مثل فرنسا، فالدور الأمريكي هو مصدر للتبعية، وليس مجرد عار، بل وضعف. وربما اهتمت أمريكا اليوم بتقديم السلاح لأوكرانيا، إلا أن الوضع قد يتغير لو عاد دونالد ترامب. وكما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فأيا كان الرئيس في أمريكا، فعندما ينتهي كل هذا، ستظل روسيا وانشغالاتها ومخاوفها ومصالحها وأساطيرها كما كانت في الماضي.
وعليه، فإن أوروبا عالقة بين كارثتها المباشرة على أبوابها ونزوات الناخب الأمريكي. والسؤال هو إن كانت أمريكا لا تزال قادرة على الدفاع عما قالت عنه مرة “العالم الحر” في ظل رئاسة ترامب بالمستقبل، وإن كانت لا تزال تملك الإرادة لعمل هذا.
وبالنسبة لصناع السياسة الأمريكية، فمن البديهي أن أمريكا هي قوة للخير في العالم، وقوة لا يمكن الاستغناء عنها، وأمريكا على خلاف الإمبراطورية البريطانية التي جاءت قبلها تجسد القيم العالمية، وتؤمن بأن ما هو جيد لأمريكا جيد للعالم. صحيح أن الولايات المتحدة قد تقصر في جانب من الجوانب، وربما اضطرت لعمل الأمور القذرة التي تعملها الدول العظمى، لكنها تظل أفضل من القوى العظمى الحالية والسابقة؛ لأنها تؤمن أن ما هو خير لها خير للآخرين، وتؤكد أوكرانيا هذه الفكرة.
وهي فكرة منتشرة وقوية، وتمزج النظام الأمريكي بالهدف الأخلاقي وكذا المبرر، وبالتالي تدفع البلد نحو العظمة والكارثة. وهي فكرة تقنع قادة الولايات المتحدة بأنهم لا يضطهدون، بل ويحررون، وأن تدخلاتهم العسكرية لن تكون أبدا تهديدا للقوى العظمى الجارة، لأن أمريكا ليست إمبريالية. لكن هذا الكلام الزائف يكمن في قلب السياسة الخارجية وأخطائها.
واعتقد بيل كلينتون أن الصين قد تصبح جزءا من النظام الأمريكي، لأنه لا يتعامل معه كنظام أمريكي بل وعالمي. واعتقد مثل بقية المؤسسة الغربية أن الصين ستصبح مثل أمريكا لو زاد التعاون التجاري بينهما. واعتقد جورج دبليو بوش أنه يقوم بتحرير العراق وأفغانستان، وأن ما قام به جيد للجميع لو رأى الناس المنفعة، بل وكان التدخل في فيتنام جزءا من هذه الفكرة. فالقوة الأمريكية كانت مهمة لحماية الفيتامينين من الشيوعية. وهي قوة كانت ضرورية لحماية العالم أجمع من الشيوعية. وبعيدا عن شمولية ورعب طالبان وصدام حسين، فإن القرن الأمريكي الذي أطاح بأنظمة كهذه، نظر إليه كمضطهد، كما كانت فيتنام.
وبشكل متساو، لم تنظر الدول القريبة مثل باكستان وإيران والصين لوصول القوات الأمريكية بأنها قوى غير مهددة. ولم تقتنع هذه الدول، مهما أنفقت أمريكا من أموال أن وجودها مفيد لها. وأكثر من هذا، ففي كل هذه الحروب، لم تكن الولايات المتحدة مهتمة قدر اهتمام هذه الدول التي لا تملك خيار إنهاء المهمة والفرار، وفي كل حالة فقد حددت الجغرافيا المصالح.
وبالنسبة لأوكرانيا، ستظل الولايات المتحدة قوة محررة، لكن ليس هناك ما يمنع تكرار التاريخ نفسه، فماذا لو لم تكن أوكرانيا اليونان أو كوريا الجنوبية، حيث ضمنت أمريكا حرية الآخرين، إلا أنها في أفغانستان حاولت وفشلت وقررت الخروج؟ وقريبا من أوكرانيا بلد لديه سياسة لا يمكن مواءمتها مع السياسة الأمريكية. ولن تنجح سياسة العصا والجزرة بإقناع روسيا لكي تغير ما تراه مهما لمصالحها.
وليس لدى صناع السياسة الأمريكية أي وهم بأن استمرار النزاع بين روسيا وأوكرانيا، حتى لو فشلت موسكو بتحقيق أهدافها، فستظل قادرة على إمطار كييف بالصواريخ، ما يجعل من المستحيل على الغرب إعادة بناء أوكرانيا حرة وديمقراطية، تماما كما فعلت إيران مع باكستان والعراق وأفغانستان، والسؤال، ماذا بعد؟
فهذا بلد ليس عضوا في حلف الناتو، ولا يتمتع بضمانات أمنية أمريكية، ومن دون أهمية مركزية للولايات المتحدة، واستطاع مواجهة الغزو الروسي، بسبب الدعم من أمريكا التي قررت أن من مصلحة الغرب فشل روسيا. ومن أجل نجاة أوكرانيا، فإن الغرب الذي تقوده أمريكا لا يمكنه التراجع عن هذه الحسبة، أو من فكرة أمريكا نفسها. وظلت أسطورة أمريكا كبلد يتمتع بخصوصية وقوة محسنة تلعب في عقول الرؤساء والمحسنين الأمريكيين، وقادت ريتشارد هولبروك إلى البوسنة، مقتنعا بأن مهمته ستنقذ العالم وحتى بعدما شهد الفشل الأمريكي الذريع في فيتنام. وقادت نفس الأسطورة هولبروك لاحقا لأفغانستان، مقتنعا باستقامة مهمته ليراها هذه المرة معفرة بالتراب.
وعادة ما تكون البساطة الأمريكية الغبية مثيرة للغضب ومنفرجة وحتى كارثية ومدمرة إلى درجة السذاجة. وهي موجودة في عقول أشخاص مثل نيل وبوش وهولبروك وبايدن، ومع ذلك لو توقفت أمريكا عن الإيمان بها وعادت إلى أمن قارتها وقررت أنها أصبح بلدا عاديا آخر، فربما هبت الرياح الباردة في أماكن أصبحت متواطئة مع أمنها، وعندما يتم نزع البساطة الغبية، تعود تعقيدات العالم وتنمو من جديد. وهذا ما تخشاه أوكرانيا والدول الأوروبية الأخرى. وفي النهاية ما يهم في النهاية هي القصة التي تريد أمريكا الإيمان بها وإلى متى.