بقلم: رونالد تيرسكي
الشرق اليوم- فاز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في شهر أبريل بسهولة، لكن بدأت تداعيات الانتخابات البرلمانية المفاجئة التي تلت الاستحقاق الرئاسي تتّضح الآن، يبدو المشهد السياسي الفرنسي اليوم أقل استقراراً على مستويات عدة، لكنه ليس فوضوياً، مع أن كل شيء ممكن في فرنسا.
على عكس المواجهة المألوفة بين معسكرَي اليمين واليسار، أصبحت السياسة الفرنسية اليوم منقسمة بين ثلاث كتل: حزب “التجمع الوطني” الشعبوي بقيادة مارين لوبان، والائتلاف بين اليسار الوسطي واليمين الوسطي بقيادة ماكرون، والائتلاف اليساري الشعبوي والمعارض للرأسمالية بقيادة جان لوك ميلانشون.
يُعتبر ميلانشون ولوبان من أشرس معارضي حلف الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد أبديا تعاطفاً واضحاً مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين في السنوات الأخيرة باعتبارها جزءاً من “أوروبا العظمى” المستقلة حيث تؤدي فرنسا دور الزعيمة الدبلوماسية، كان مجرّد وجودهما كفيلاً بإضعاف أوروبا والعلاقات العابرة للأطلسي، لذا من المتوقع أن يُسبّبا أزمة حقيقية عند وصولهما إلى السلطة. في الوقت نفسه، من اللافت أن تتّكل الكتل الثلاث في فرنسا على زعيم واحد:
يُعتبر حزب “التجمع الوطني” (كان يُعرَف سابقاً باسم الجبهة الوطنية) أشبه بماركة عائلية لأن مارين لوبان هي ابنة مؤسّس الحزب، جان ماري لوبان، أما الائتلاف اليساري الذي يقوده ميلانشون، فهو موجود بفضله شخصياً، لأنه نجح مع حزب “فرنسا الأبيّة” مقابل فشل الأطراف الأخرى (حزب الخضر، والاشتراكيون، والشيوعيون)، كان حزب ماكرون من جهته عبارة عن حركة قوية أنشأها الرئيس بنفسه استعداداً لانتخابات عام 2017، لكن هل يهتم هذا الأخير بمصير هذه الحركة من بعده؟ نظرياً، قد تبقى الحكومة الفرنسية مستقرة خلال ولاية البرلمان الممتدة على خمس سنوات: ماكرون هو رئيس البلد، ومن المستبعد أن تنشأ أغلبية كافية لإسقاط الحكومة، ويُفترض أن يتمكن ائتلاف الأقلية الذي يقوده الرئيس من حُكم فرنسا بدعمٍ خاص من حزب “الجمهوريون” وأطراف أخرى على الأرجح. (يتكلم ماكرون في الوقت الراهن عن أغلبية الوحدة الوطنية).
لكن من المتوقع أن تكون التشريعات المبتكرة صعبة المنال، لا سيما تلك التي تتعلق بخيارات شائكة تؤثر على حياة الناس الشخصية مثل سن التقاعد، والمسائل المرتبطة بمستوى المعيشة مثل التضخم وتدني الرواتب ومعاشات التقاعد، كذلك، من الأصعب تنظيم العملية الانتقالية نحو استعمال الطاقة الخضراء.
يعتبر الكثيرون ماكرون داعماً لقطاع الأعمال، وهو أمر صحيح، لكن يفترض هذا المعسكر أن دعم قطاع الأعمال مرادف لمعاداة الطبقات الوسطى والعاملة بدل اعتبار النمو وتأمين فرص العمل جزءاً من السياسات الاجتماعية والاقتصادية في آن، لكن لا ينحصر هذا الصراع على مستوى الثقافة الاقتصادية في فرنسا وحدها.
تثبت هذه المعطيات كلها أن ماكرون نجح في إبقاء الوسطية المبدأ السياسي الحاكم في فرنسا، رغم خسارته الأغلبية في البرلمان، وفي الوقت نفسه، لم يصبح تأثير عقلية اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف خارج السيطرة بعد رغم توسّعه، ما كان أي زعيم آخر في فرنسا ليُحقق هذه النتيجة الإيجابية، وقد يخفّ الزخم السياسي تدريجاً مع القليل من الحظ. لكن هل ستنتج الظروف صراعاً اجتماعياً متزايداً وتؤجّج الانقسامات مع اليمين المتطرف واليسار المتطرف؟ لم ينسَ أحد بعد حركة “السترات الصفراء”.
يوحي المشهد العام في باريس بأن ماكرون سيدير السياسة الخارجية الفرنسية كما فعل في آخر خمس سنوات، تعرّض الرئيس الفرنسي لبعض الانتقادات لأنه أطلق محاولات مفرطة رغم تراجع الثقل الجيوسياسي الفرنسي، لكن تعود هذه المقاربة إلى أيام شارل ديغول، إذ تحاول فرنسا دوماً أن تطلق مبادرات تفوق قدراتها.
لا أحد يستطيع اتهام ماكرون بالغباء أو الخداع، أو عدم استعداده لأخذ مجازفات مدروسة، أو امتناعه مثلاً عن مساعدة أوكرانيا ضد العدوان الروسي، فرغم وفرة الانتقادات التي يستحقها ماكرون فإن الإشادة بزعيمٍ مثله تسهل.
المصدر: صحيفة الجريدة