الشرق اليوم- نشر مركز ستراتيجيكس للأبحاث والدراسات مقال للرأي يعالج موضوع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في عدد من الدول في السنوات السابقة سواء في أوروبا أو في دول من الشرق الأوسط، وكيف أصبحت الأحزاب الصغيرة أو الحديثة بالعهد السياسي، تؤثر في نتائج الانتخابات وتقف كعثرة أمام الأحزاب التقليدية في تشكيل الحكومات كما في السابق.
يُلاحظ أن الانتخابات التي جرت في العديد من الدول ذات النظم البرلمانية خلال السنوات القليلة الماضية، أفرزت نتائجها حالة من “اللاحسم”، حيث الأحزاب التقليدية التي لطالما احتكرت تشكيل الحكومات، وسيطرت على سير العمل البرلماني، وأقرت قوانينها بمرونة ويُسر، أصبحت تُعاني في ظل نتائج انتخابية تبقيها تحت عتبة الأغلبية المطلقة.
وأصبح لزاماً عليها المُساومة مع الأحزاب والكتل البرلمانية الأخرى، من أجل تشكيل أغلبية مطلقة تُمكنها من تشكيل حكومة ائتلافية، وفي هذه الحالة غالباً ما تُقيد الأحزاب الكبيرة، والحاصلة على أعلى أصوات في تنفيذ برامجها التي أنتخبت وفقاً لها، نظراً لتعدد التوجهات والرغبات بين الأحزاب والكتل المكونة لهذه الائتلافات، فضلاً عن تشكيله في أحيان عدة من مجموعة متنافسين، ما يجعل من استمرارية الحكومات ضمن هذا الحيز رهناً لانفعالات ورضا مكوناتها.
أما في النظم الرئاسية حيث لا تشترط تسمية رئيس الوزراء للأغلبية البرلمانية، فقد أصبحت هي الأخرى تواجه معضلة اضطرار رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، الدخول في مفاوضات مع الكتل والأحزاب البرلمانية عند التصويت على مشاريع القوانين، وهو ما ينعكس سلباً على ولاية الحكومة ويفقدها فرادتها ويجعل قوانينها غير متجانسة.
وأمام انتشار ظاهرة “اللاحسم الانتخابي”، أصبح مفهوم “أغلبية أقلية” شائعاً في أدبيات الدراسات الخاصة بالنظم السياسية، فتشتت المشهد السياسي على وقع صعود قوى محلية كسرت احتكار القوى التقليدية المسيطرة.
ولعل ما أقرته الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة (يونيو 2022) يؤكد هذه الظاهرة، حيث فاز في جولة الإعادة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المصنف بأنه وسطي على منافسته من حزب “التجمع الوطني”، ماريان لوبان، المصنفة بأنها يمين اليمين، بعد أن حقق 58.55% مقابل 41.45% حصدتها لوبان.
إلا أن الانتخابات التشريعية التي تلتها بأسابيع قليلة، حصد فيها تحالف ماكرون 245 مقعد من أصل 577، أي ما نسبته 42.6%، حيث لم تنحصر المنافسة في الانتخابات التشريعية بين المرشَّحين اللذين نالا أكبر عدد من الأصوات في الجولة الأولى، فكان التنافس يضم طيفاً سياسياً واسعاً، لا سيما من القوى الصاعدة والشعبوية.
القوى الصاعدة: ودورها في تنامي اللاحسم
توظّف القوى الصاعدة، الخطاب المُتنامي حول عدم أهلية النخب السياسية، على وقع عجزها عن مُعالجة المشاكل الاقتصادية والمجتمعية، وهي تقدم نفسها عبر خطاب يرتكز على قراءة الظرف وفق منظور الفئات البعيدة عن مركز صناعة القرار التي ترى أنها مهمشة وتعاني من فجوة في العدالة المجتمعية.
وتفسر القوى الصاعدة – سواء كانت يمينية أو يسارية – خطابها، بأنه نتيجة قصور متعمّد مارسته النخبة عبر عقود حكمها، وتُقدم نفسها كبديل عبر وعود “غير واقعية” باعتبارها المخرج نحو العدالة الاجتماعية واستعادة السيادة “الوطنية الأصيلة” إلى “الشعب”.
كما تدعي هذه الأحزاب أن التحديات والصعوبات المعيشية يمكن حلها عبر خفض تفاعلات البلاد الخارجية، سواء من حيث التزاماتها تجاه غيرها من الدول، أو من حيث وقف استقبال الأجانب والمهاجرين، فتصعّد كثير من الأحزاب اليمينية والشعبوية من حدتها تجاه الهجرة وتعتبرها خطراً على هوية البلاد وعلى استقرارها الديمغرافي على المدى المتوسط/البعيد.
وفي ظل ما واجهته دول العالم، من ظروف صعبة أفرزتها حائجة كوفيد-19، ومن بعدها الأزمة الأوكرانية، فإن الواقع السياسي في فرنسا مُرشح للتمدد إلى أكثر من دولة، وحتى بالرغم من أن الأحزاب الصاعدة والشعبوية لا تمتلك في الأغلب برامج عملية وحلولاً واقعية للقضايا والتحديات المستعصية، لكنها تكتسب شرعية “الرفض”؛ أي تمثيل الرافضين للوضع القائم.
وهي بذلك تستفيد من التصويت العقابي، والذي يكون عبر سعي فئات من الناخبين لاستبدال من انتُخب سابقاً، إما عبر التصويت للجهة المنافسة، أو عبر الامتناع عن التصويت، ويكون الأخير مؤثراً عندما تمارسه أعداد كبيرة ممن يصوتون عادةً لأحزاب تقليدية.
وتُجمع الأحزاب اليمينية الصاعدة في أوروبا، على اعتبار التكتل الأوروبي يتعارض مع السيادة الوطنية، فهو كاتحاد فوق قُطري تسمو مواده المتفق عليها على القانون المحلي، وهذه المشاعر المعادية أو الرافضة للوحدة الأوروبية تضعف مستوى التنسيق خصوصاً في قضايا الدفاع والسياسة الخارجية، بعكس الأحزاب التقليدية الأوروبية التي تهمها الرابطة الأوروبية وتسعى لتعزيز التكامل عبر الاتحاد الأوروبي.
ظاهرة اللاحسم تصل الشرق الأوسط
يُلاحظ أن الأحزاب اليمينية والشعبوية تحقق نمواً مقابل تراجع حضور الأحزاب التقليدية، ففي الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، صوت لماكرون ما نسبته 66% مقابل 33.9% للوبان (انتخابات 2022 كما جاء سابقاً، حصد ماكرون 58.5% مقابل 41.4% للوبان).
وتظهر نتائج الانتخابات التشريعية بوضوح أكبر مسارَ تقدم حزب التجمع الوطني بقيادة لوبان، حيث نجح في رفع تمثيله من 8 نواب إلى 89 نائب. وهذا التصاعد للأحزاب غير التقليدية من خارج النخبة ينتشر في أكثر من دولة أوروبية وليس فقط في فرنسا.
وتعد بلجيكا من أكثر الدول الأوروبية التي تعاني من الحكومات غير المستقرة زمنياً، فهي صاحبة أطول فترة زمنية لفراغ حكومي لدولة ليست في حالة حرب، ومسجل هذا الرقم القياسي في موسوعة غينيس، حيث لم ينجح أي ممن كُلفوا بتشكيل حكومة بعد انتخابات يونيو 2010 بحصد العدد الكافي من الأصوات حتى ديسمبر 2011، وبقيت البلاد دون حكومة مكتملة الصلاحيات مدّة 541 يوم.
ولم تختلف الانتخابات التي جرت في مايو 2019 كثيراً عن تلك التي جرت في يونيو 2010 حيث استمر الفراغ قرابة 500 يوم حتى أكتوبر 2020.
وتُرجع بعض الدراسات هذا التشظي الانتخابي إلى عدم التجانس الثقافي، حيث تسود البلاد 3 لغات رسمية، الفرنسية والألمانية والدويتشية (لغة ألمانيا الغربية “Dutch”). وأصبح مفهوم “الحالة البلجيكية” رديفاً للوضع الذي تعجز فيه صناديق الاقتراع عن إفراز أغلبية واضحة تمكّن صاحبها من تشكيل حكومة مستقرة.
أما في الشرق الأوسط، فتعكس الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في العراق (أكتوبر 2021) ولبنان (مايو 2022) حالة اللاحسم الانتخابي، حيث شكّل صعود المستقلين إخلالاً بالتوازن القائم، وتعرضت تيارات رئيسية إلى نوع من التشظي، ففي لبنان انسحب تيار المستقبل من المشاركة الانتخابية تاركاً قوى 14 آذار دون ثقلها السني.
وفي العراق، انقسم ما يُعرف بـ”البيت الشيعي” إلى إطار تنسيقي وتيار صدري، ودفع كل منهما لإنفاذ رؤيته في شكل الحكومة، فالإطار يريدها توافقية تضم كل القوى حتى لا يُقصى من الحكومة، في حين يصر التيار الصدري على حكومة أغلبية تاركاً باقي القوى لتشكيل معارضة.
وأدى تعثر تجسير الفجوات بين الإطار والتيار إلى استقالة نواب التيار من البرلمان العراقي، ما فتح الباب على تساؤلات جمة حول قدرة البرلمان على إكمال مدته الدستورية دون الحاجة إلى إجراء انتخابات مبكرة.
وفي تونس، عانى الرئيس المنتخب، قيس سعيّد، من عرقلة البرلمان المنتخب أيضاً لتوجهاته، ليقدِم على اتخاذ خطوات طارئة عطّلت البرلمان والدستور لما برره منعاً لبعض التيارات السياسية من تعطيل الدولة وتأثير قدراتها في ممارسة واجباتها تجاه المواطنين والتزاماتها الدولية.
أما إسرائيل، فقد دعا الائتلاف الحكومي في يونيو 2022 إلى إجراء انتخابات مبكرة ستكون الخامسة في غضون 3 سنوات، مبرراً دعوته لمنع دخول البلاد في فوضى قانونية وأمنية إثر عدم قدرته على تمديد القانون الناظم لأوضاع المستوطنين في الضفة الغربية.
ولا يُستبعد ألا تقر صناديق الاقتراع أغلبية واضحة في الانتخابات الخامسة، فاليمين لا يزال منقسم على نفسه، وسط صعود قوى جديدة في المشهد السياسي الإسرائيلي، كالأحزاب القومية الدينية والأحزاب العربية، وأصبح لهذه القوى الدورَ في ترجيح كفة الميزان الذي كان شبه محصور منذ 1948 بين كتلتين أو ثلاث.
ربما لا تختلف العوامل المسببة لـ”اللاحسم الانتخابي” في الشرق الأوسط عن تلك التي في أوروبا، باستثناء فارق جوهري أن معظم البلدان شرق الأوسطية التي تجري فيها الانتخابات لم تعتد العملية الانتخابية، فالديمقراطية ليست راسخة في هذا الجزء من العالم مقارنةً بالدول الغربية التي استقرت الممارسة الديمقراطية فيها كنظام للحكم منذ عقود.
رئيس أغلبية أقلية أم حصان أعرج؟
بتعقد الأنظمة السياسية وتعدد وظائفها ووحداتها، من الطبيعي أن تظهر الإشكالات البنيوية فيها، خصوصاً عندما يبالغ الدستور في تطبيق مبدأ “توازن” السلطتين التشريعية والتنفيذية معطياً كلا السلطتين “مساواة” في القوة والتأثير.
وهذا التساوي في القوة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يحمل في طياته مخاطر من تفاقم الانسداد السياسي وصولاً إلى انسداد مؤسساتي ويحدث عندها تعطيل في المؤسسات المعنية بتيسير الشؤون الحياتية، عبر الإضرابات مثلاً التي تتم للتعبير عن الرفض السياسي أو لنقل مطالب خدمية لا يمكن استيعابها من خلال النظام السياسي المسدود.
وفي حالة الانسداد، يزداد عجز الرئيس -سواء كان رئيس حكومة أو رئيس دولة- ويتحول من رئيس أغلبية أقلية إلى حصان “أعرج” لا يمكنه السير قدماً لرعاية المصالح العامة، وهذا التوصيف استوحاه هذا المقال من “البطة العرجاء” الوصف الذي يُطلق على الرئيس الأمريكي في الفترة الواقعة من ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية (أوائل نوفمبر) حتى تنصيب الرئيس الجديد (20 يناير).
وغالباً تنجو الأنظمة الشمولية وذات الديمقراطية غير التعددية، كالصين وروسيا، من فخ الحصان الأعرج، وهو ما يضاعف الضغط على الدول الغربية نتيجةَ هذه الحالة، إذ أصبحت العملية الديمقراطية ثغرة يمكن التسلل منها للتأثير على متانة الوضع الداخلي، ولا يقصد بذلك مدح النمط الشمولي للحكم وإنما عرض انتقاد للحالة الديمقراطية غير الحاسمة التي تعايشها كثير من الدول.
أما عن تقديم حلول لهذه المعضلة فذلك أمر متروك للوضع الداخلي في كل دولة، وغالباً ستتمحور الحلول حول إجراء تعديلات دستورية وفي أنظمة الانتخابات، ففي السابق، انحسر التنافس الانتخابي بين حزبين كبيرين أو ثلاثة بحضور هامشي للأحزاب والقوى الصغيرة، أما مع صعود هذه الأخيرة فقد أخلت بالتوازن القائم، فصحيح أنها بعيدة عن تحقيق أغلبية، ولكن انتزاعها مزيد من أصوات الناخبين حال دون تحقيق أي من الأحزاب الكبيرة لأغلبية تمكّنها من الحكم مقابل تشكيل الأقلية للمعارضة، فلم يعد المشهد السياسي محصوراً بطرف يحكم وطرف يعارض ويراقب.
والأهم من إعادة النظر في الأنظمة الانتخابية هو التفكير العميق في التوافقات السياسية والنظر إليها لا على أنها مرحلة “مؤقتة” لبناء أغلبية نيابية، وإنما هي نتيجة توافق في الكل المجتمعي “Social Totality” على الرؤى والأفكار والحلول.
وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تشتيت الكل المجتمعي ومنح من هم خارج النخبة وسيلة إعلامية للتجنيد ونشر البروباغندا.
فقدرات القوى الصاعدة العملية أقل من الأحزاب التقليدية بحكم الخبرات المتراكمة، ولو نجحت تلك القوى في حصد أغلبية واختُبرت في ميدان العمل فإن حججها وخطابها سيفقدان بريقهما المعنوي، فالأزمات المستجدة يصعب حتى على الأحزاب المعتادة على الحكم أن تنجح في إدارتها بصورة مقنعة شعبياً.
المصدر: ستراتيجيكس