بقلم: د. السيد ولد أباه – صحيفة الاتحاد
الشرق اليوم- في العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» الأميركية (يوليو 2022)، ينبهنا مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق «فليب زليكو» إلى أن النظام الدولي المتولد عن الحرب العالمية الثانية قد انتهى بالكامل منذ سنوات، وما نعيشه راهناً هو نتائج هذا الانهيار الذي خلّف ما أطلق عليه في عنوان مقاله «نظاماً أجوف» (The hollow order).
وبالنسبة لزليكو لم تبدأ أزمة النظام الدولي مع الحرب الأوكرانية الراهنة، بل مع أزمة النظام الاقتصادي والمالي في سبعينيات القرن الماضي التي ضربت المنظومتين الرأسمالية والاشتراكية، ثم أزمة منظومة التسلح والردع التي شلّت الحلفين الدوليين المتصارعين. لقد اعتبر الغرب أنه انتصر في حربه مع المعسكر الشيوعي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي الذي تفكك بالفعل، فلم يدرك أن ما حدث هو ضرورة تغيير قواعد اللعبة الدولية بكاملها بدلاً من استغلال الفراغ الذي خلّفه انهيار الكتلة الاشتراكية المنافسة.
وبالنسبة لزليكو ظهر من الواضح أن كل السياسات التي اتبعها الغرب بعد نهاية الحرب الباردة كانت مرتجلةً وطائشةً، والدليل هو العجز عن حل المعضلات الكبرى التي مرَّ بها العالَمُ في السنوات الأخيرة، وبصفة خاصة الأزمات المالية والأمنية والمناخية والصحية. الخلاصة التي يصل إليها زليكو هي ضرورة إبداع نظام عالمي جديد على أساس المصالح الكونية المشتركة، وليس القيم أو المبادئ كما يكرر زعماء الغرب في هذه الأيام في دفاعهم عن «الديمقراطية الليبرالية» ضد «الاستبداد والظلم»!
تستوقفنا مقالة زليكو في جوانب ثلاثة محورية، تستدعي التوضيح والتعليق: أولها: الوصف المعياري للحظة الدولية السابقة التي اصطلح على تسميتها بالحرب الأيديولوجية أو الحرب الباردة أو الصراع القطبي الثنائي.. فما يجمع بين هذه المقولات هو حصر القوى الفاعلة عالمياً في الدول المنتصرة خلال الحرب العالمية الثانية، وحصر الصراع القائم في ثنائية أيديولوجية غربية محض (الرأسمالية الليبرالية والاشتراكية).
إن المشكل الذي طرحه هذا التصنيف برز بعد تحلل الاتحاد السوفييتي، وتوسع المشروع الأوروبي والحلف الأطلسي إلى المجال الأوروبي الشرقي، باعتبار أن التركيبة العالمية التي انبثقت عن هذه التحولات الكبرى لم تعد تنطبق عليها معاييرُ وأدواتُ المعادلة الدولية السابقة. وهكذا أصبح العقل الاستراتيجي الغربي عاجزاً عن ضبط وإدارة الأزمات والديناميكيات الدولية الجديدة لافتقاره إلى منظومة مفهومية وتفسيرية تلائم المعطيات غير المسبوقة الجارية عملياً.
ثانيها: لقد تعاملت الرؤية الاستراتيجية الغربية مع روسيا من منظورين قاصرين: إما باعتبارها في وضع انتقالي يفضي بها ضرورةً إلى النموذج الليبرالي الديمقراطي، ومن هنا تأجيل دمجها في نادي الحلفاء المقرّبين إلى حد استكمال مسارها الانتقالي، أو النظر إليها كقوة معادية من خارج المنظومة، يتم التعامل معها في إطار استراتيجية الردع الاستباقي للصعود الآسيوي الذي هو أفقها الاستراتيجي بعد فشل طموحها في الاندماج الأوروبي.
وفي الحالتين، تغيب الرؤية الواقعية في التعامل مع روسيا بصفتها قوةً دوليةً لها مجالها الحيوي وتطلعاتها الجيوسياسية الخاصة التي يتوقّف عليها السلم العالمي. ثالثاً: إن خطاب العالمية الكونية الذي هو المرجعية النظرية والقيمية للكتلة الغربية المتحكمة في النظام الدولي لا يستقيم مع فكرة الصراع الأيديولوجي المتجدد بين الليبرالية الديمقراطية و«الاستبدادية الشعبوية» وفق عبارات زعماء الغرب من أمثال بايدن وماكرون وجونسون.. فمع انقشاع وهم الرهان على تمديد النموذج الليبرالي الديمقراطي إلى الصين وروسيا (لأسباب وخلفيات لا نعرض لها هنا)، يصبح من الجلي أن مقتضيات السلم الدولي والشراكة التضامنية بين الأمم لا يمكن أن تتم إلا في إطار اختلافي يحترم خصوصية وتميز القوى الكبرى والصاعدة التي لا تنتمي تاريخياً ولا حضارياً للعالَم الغربي.
لقد حذَّر مؤخراً وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» من أن ستاراً حديدياً جديداً بدأ يقوم بين الغرب وروسيا، بعد ثلاثين عاماً على انهيار جدار برلين الشهير. وما لم يقله لافروف هو أن روسيا تبذل الآن جهوداً كبرى لاستعادة مواقعها الجيوسياسية السابقة في معادلة الصراع الدولي المتجدد، لمواجهة الستار الحديدي المفروض عليها.
وفي هذه المواجهة، لا يمكن لروسيا بطبيعة الحال أن تستند للخطاب الأيديولوجي السائد خلال الحرب الباردة، لكنها تستفيد بوضوح من ثغرات ونقاط قصور سردية العالمية الكونية التي ترفعها القوى الغربية المنافسة. لا تواجه روسيا خصمَها من منطلقات فكرية أو أيديولوجية ولا تدعي التبشير بنموذج بديل عن الديمقراطية الليبرالية، لكنها تطمح إلى أن تقود خط التمرد والاحتجاج من داخل النظام الدولي المتصدع.