بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- خلال عقد ونصف من الزمن، تعرّضت أوروبا لثلاث صدمات، بداية مع الأزمة المالية في عام 2008، وما سُمي حينها “أزمة منطقة اليورو”، مروراً بجائحة كورونا، وصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية، لكن الصدمة الأخيرة مختلفة نوعياً من حيث طبيعتها، وأيضاً من حيث تأثيراتها الاستراتيجية. فالحرب بطبيعتها، وبالضرورة من حيث التعريف، هي إعادة هندسة للعلاقات الجيوسياسية، ونتيجة مباشرة لفقدان الأنساق السياسية التقليدية في القدرة على معالجة الأزمات بين الدول بالطرق السلمية، ومؤشر على تدهور في الممارسات العقلانية لإدارة المصالح. وإذا كانت أوروبا، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، قد سلكت دروباً عقلانية سلمية في إدارة خلافاتها البينية، حتى خلال الحرب الباردة، فإنها هذه المرّة تتراجع، كما هو واضح عن مسارها العقلاني، على الرغم من التكاليف الباهظة التي تفرضها الحرب في المستويات كافة.
المؤشرات العامة والخاصة لتداعيات الحرب على أوروبا، بدأت تظهر بشكل جلي وحاد في تقارير واستطلاعات الرأي والإحصائيات التي تنشرها مراكز البحث الأوروبية والأممية، حول انعكاسات الحرب على مجالات عديدة، خصوصاً في ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية الجديدة، والتي تظهر قصور الرؤية السياسية لدى بعض القادة الأوروبيين، الذين راهنوا على سياسة العقوبات المالية والاقتصادية والتكنولوجية ضد روسيا، من أجل إنهاء الحرب بشكل مبكر، لكن هذه السياسة بدأت من الناحية العملية بالارتداد سريعاً على أوروبا، وبشكل خاص على الدول الرئيسية التي تقود الاتحاد، وترسم سياساته، وهو أمر طبيعي، نتيجة اعتماد اقتصاديات هذه الدول على الغاز والنفط الروسيين اللذين كانت تحصل عليهما بأسعار تنافسية، وقد حدث تضخم سريع في أسعار الطاقة، خلال الأشهر القليلة الماضية، وصل إلى 39.2% في مايو/أيار الماضي.
الصراع السياسي بين الأحزاب حول نقاط كان يفترض أن التوافق عليها أصبح من الماضي، عاد إلى الواجهة، مثل زيادة الاعتماد على الفحم الحجري في توليد الكهرباء، لتقليص الاعتماد على الغاز. ومن سخرية الأقدار، بحسب توصيفات الصحافة الألمانية، أن روبرت هابيك، وزير الاقتصاد وحماية المناخ، المنتمي ل”حزب الخضر”، هو صاحب هذه الدعوة لزيادة الاعتماد على الفحم الحجري، بعد أن ناضل هذا الحزب وبنى شعبيته، تحت شعارات حماية المناخ من التلوث، وهي الشعارات التي تبدو اليوم أنها كانت مثالية؛ بل مكلفة سياسياً لأنها فرضت التبعية على الاقتصاد الألماني، لمصلحة الحكومة الروسية وشركات الغاز فيها.
التضخم الراهن في أوروبا، وصل إلى مستوى غير مسبوق منذ أكثر من أربعة عقود، وتجاوز في بعض السلع حاجز 10%، ونظراً لطبيعة النظام السياسي الديمقراطي، فإن ردّة الفعل الطبيعية، جاءت من خلال الإضرابات العديدة التي شهدتها عواصم أوروبية عديدة، طالت قطاعات حيوية، مثل قطاع النقل الجوي. فقد تراجعت القيمة الشرائية للمواطنين، بما يهدد بشكل مباشر حياتهم المعيشية اليومية، ومن المتوقع أن تتواصل وتزداد حدّة الإضرابات، خصوصاً أن جميع المؤشرات تفيد بأن الحرب في أوكرانيا مستمرة إلى وقت طويل، وأن إمكانية تعويض النقص في الطاقة تبدو أمراً مشكوكاً فيه، على المديين القصير والمتوسط.
في ظل هذه الأوضاع، هناك قفزات إلى الأمام، لم يكن من الممكن التفكير فيها قبل الحرب، كالتي تحدث الآن في السياسة الدفاعية لبعض الدول، وفي مقدمتها ألمانيا التي تمضي بخطوات سريعة نحو إعادة بناء جيشها، وتطوير قدراتها العسكرية، وطرح العودة للخدمة الإلزامية في الجيش، وعرض نفسها كمظلة للدفاع عن دول أوروبا الشرقية، وهذا التحوّل في السياسات العسكرية والدفاعية الألمانية، من شأنه أن يستعيد معه سياسات ومخاوف قديمة، عن دور ألمانيا في فضائها الجيوسياسي والعالمي، إضافة إلى إعطاء دفعة قوية للأحزاب القومية والشعبوية في أوروبا، التي تنظر بعين الريبة إلى ما يمكن أن يحققه الزخم العسكري الألماني، من زيادة هيمنتها على القرار السياسي الأوروبي، بعد أن هيمنت بشكل واسع على جوانب واسعة من الاقتصاد الأوروبي.
في عين العاصفة، تبدو دولة الرعاية والرفاه الأوروبية على المحك، فسنوات السلم الطويلة التي عاشتها أوروبا، مكّنتها من تأمين أوضاع اقتصادية واجتماعية مستقرة إلى حدّ كبير، حمت من خلالها الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً، ونظمت علاقات القوة والسلطة، لكن الصدمة الراهنة قد تجعل من غير الممكن ضمان مستويات معقولة من العدالة والرفاه الاجتماعيين، وبالتالي حدوث خلل في علاقات القوة والسلطة؛ الأمر الذي من شأنه أن يفتح المجال أمام اضطرابات عديدة.