بقلم: يوشكا فيشر
الشرق اليوم- ستؤدي حرب روسيا في أوكرانيا إلى تقسيم أوروبا مرة أخرى، حيث سيتم فصل الشرق عن الغرب ومن المرجح في المستقبل المنظور أن تكون الحدود بينهما منطقة خطرة يتم تأمينها عسكرياً.
بالطبع، نحن لا نعرف كيف أو متى ستنتهي الحرب، ولكن لاحقاً للتطورات الأخيرة، فإن الافتراض المنطقي هو أن أوكرانيا ومولدوفا ستصبحان مرشحتين للانضمام الى الاتحاد الأوروبي وبعد ذلك ستحصلان على العضوية الكاملة خلال بضع سنوات، وإن قادة أكبر ثلاث دول أعضاء بالاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا وإيطاليا) بالإضافة الى رومانيا عبّروا عن ذلك بوضوح عندما زاروا كييف الأسبوع الماضي، حيث قدّموا دعمهم الكامل لطلبات عضوية أوكرانيا ومولدوفا كما قدّمت المفوضية الأوروبية الدعم نفسه بعد ذلك مباشرة.
فعملية التوسع تلك ستغيّر الاتحاد الأوروبي جذرياً بحيث تحوله بشكل لا ريب فيه الى لاعب سياسي من الناحية الجيوسياسية وخصم روسيا الرئيس بالقارة، وإن حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العدوانية على أوكرانيا تعني أنه قد أعلن بشكل واضح لا لبس فيه أنه يطمح لاستعادة الإمبراطورية الروسية مما يعني أنه يتصرف على أساس مبادئ لا تتوافق بالمرة مع مبادئ الإتحاد الأوروبي القائمة على أساس السيادة المتساوية وسلامة الأراضي وعدم انتهاك الحدود وحكم القانون.
لقد قرر الاتحاد الأوروبي تبني أوكرانيا ليس لأنه أراد ذلك أو بسبب طموحاته الإمبريالية، ولكن لأن بوتين أجبره على ذلك فلقد بدأ بوتين القتال مما جعل أوروبا تواجه بديلين واضحين وهما إما أن الخضوع لمطالبات الكرملين بالسلطة أو الدفاع عن هويتها ومصالحها على أساس احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديموقراطية.
واتخذ الاتحاد الأوروبي قراره مفضلاً الدفاع عن مبادئه وعن حريته، وسيقول بعض منتقدي قراره إنه كان ينبغي عليه محاولة التفاوض مع روسيا، لكن مثل هذه الحجج تفتقر إلى المصداقية فحتى لو رغب الاتحاد الأوروبي بالتوسط في تسوية مريبة مع الكرملين فإن مثل تلك التسوية لم تكن لتنجح، وذلك لأن موقف الاتحاد الأوروبي يتعارض بشكل متبادل مع موقف بوتين الذي يحلم بعمل مراجعة للتاريخ من خلال استعادة الإمبراطورية.
نظراً لأن أي طرف لا يستطيع التراجع، يجب علينا أن نتوقع صراعاً مطولاً، ونظراً لأن القوة العسكرية وقدرات الردع ستلعب في نهاية المطاف دوراً حاسماً، فإن من المؤكد أن تغير الحرب شخصية الاتحاد الأوروبي فلم يعد مشروع التكامل الاقتصادي يحتل الصدارة، من الآن فصاعدا، يجب أن تأتي المصالح الأمنية والجيوسياسية أولاً.
وإن إعلان دعم ترشيحات أوكرانيا ومولدوفا هو بداية المرحلة الثانية من توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، وعلى الرغم من أن انضمام أي من البلدين للاتحاد الأوروبي لن يحدث قريباً، فإن العملية نفسها سيكون لها تأثير لا رجعة فيه فلم يعد من الممكن تحقيق أوروبا المستقبل بدون دول أوروبا الشرقية بشرط أن تبقى راغبة وقادرة على الانضمام.
والسبب بسيط، فعندما يحين وقت فكرة ما فإنه لا يمكن إيقافها، وعلى النقيض من ذلك فإن الفكرة التي انقضى وقتها لا يمكنها أن تظل قائمة إلا إذا كانت مدعومة بقوة عسكرية، وحتى هذا لن ينقذها في النهاية، وإن الصراع الجديد بين أوروبا وروسيا هو صراع حول الأفكار فهو صدام فكري بين الإمبريالية والديموقراطية. نظراً للأهمية التاريخية لهذا التطور، يجب ألا يستسلم الأوروبيون الغربيون لأي أوهام مريحة حول المخاطر التي يواجهونها، فقد تم بناء النظام الحالي للدول في أوروبا بالأصل حول هدف دمج روسيا وأوروبا، لكن بوتين أخرج هذا المشروع عن مساره بشكل لا رجعة فيه، أي أنه أصبح شيئاً من الماضي. فالحرب في أوكرانيا تعني أن أوروبا تواجه اختباراً لتثبت نضوجها، فلقد وصلت إلى مرحلة الرشد في عالم تحدده القوى العظمى والمنافسات النووية، وسواء شئنا أم أبينا هذه هي الحقائق الجيوسياسية في أوائل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وفي ظل عدم وجود تحالف مستمر مع الولايات المتحدة ستكون أوروبا في حالتها الهشة الحالية أضعف من أن تتمكن من البقاء في المشهد، فالمصالح والقيم لوحدها لن تكون كافية.
والبديل هو أن تقبل أوروبا بضعفها الحالي وتتمسك بالأوهام الخيالية وفي آخر ذلك الطريق لن تجد إلا الخضوع والتبعية، فأوروبا لا يمكنها أن تأمل وجد احترام متبادل في عالم قائم على أساس التنافس بين القوى العظمى.
إذاً، فإن الخيار الوحيد لأوروبا هو السعي لإقامة تحالفات حصيفة وتطوير قوتها الذاتية وبناء قدرات الردع الخاصة بها، ويجب أن يتم استبدال الأوهام التي ترسخت لفترة طويلة باستراتيجية متماسكة للنجاة من الصراع الفكري الجديد، ويجب أن تقبل أوروبا أنها تعيش في جوار خطير.