بقلم: محمود حسونة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- منذ عقود ونحن نتابع الأوروبيين يتظاهرون دفاعاً عن حقوق غيرهم، وبشكل خاص حق حرية الرأي والتعبير. يتظاهرون ضد أنظمة حكم في دول ما أسموه العالم الثالث مطالبين بإسقاطها، ومحفزين مواطنيها على التمرد والثورة، أملاً في جلب أنظمة حكم تتوافق مع المبادئ الأوروبية، وتتبنى سياسات يسعون لفرضها عالمياً.
اليوم تغير الوضع وأصبح الأوروبيون يتظاهرون دفاعاً عن حقهم في الحياة، يتظاهرون ضد الغلاء الذي يكاد يعصف باستقرار اعتادته القارة العجوز، وضد سياسات أفرزت أنظمة حكم هشة عجزت عن التعامل الصحيح مع أزمات عالمية، وضد أنظمة صحية عجزت عن مواجهة وباء “كورونا” الذي كانت خلاله أوروبا من أكبر الخاسرين عالمياً، سواء على مستوى الموتى أو المصابين، وضد سياسة الإغلاق التي انتهجتها وأفرزت ركوداً اقتصادياً، واليوم يتظاهرون ضد موجة الغلاء التي تضرب العالم كله، وتزعزع استقرار دولهم الاجتماعي والسياسي، وخوفاً من شبح الجوع الذي يطل برأسه ويهدد العالم بأزمة غير مسبوقة.
عندما يصل الأمر إلى لقمة العيش ينبغي أن تخرس أصوات المتاجرين بحقوق الإنسان، وعندما تجوع البطون تعجز العقول عن التفكير الحكيم، ويسود التهور السلوكي وتنتشر الفوضى الاجتماعية.
نسب تضخم مرعبة تضرب أوروبا وغيرها، ورغم ذلك فالشاغل الأساسي لزعماء القارة التي احتلت العالم قروناً هو دعم أوكرانيا بالأسلحة ليطول أمد حربها مع روسيا، وأملاً في أن تروض الدب الروسي الذي خرج عن سيطرة أمريكا وتابعيها الأوروبيين. ورغم أن بعض ساسة أوروبا يخرجون عن النص الأمريكي أحياناً ويحذرون من القادم، إلا أن صاحب القرار لا يتوانى عن دعم أوكرانيا بالمال، ويحرّمه على مواطنيه الجوعى.
الأوروبيون حوّلوا الاحتفال بعيد العمال أول الشهر الماضي إلى مناسبة للصراخ استغاثة من الغلاء، وتظاهر الناس في معظم مدن القارة، متخلين عن سلميتهم المعهودة واتخذوا العنف وسيلة لتوصيل رسالتهم بتدمير مرافق عامة، وتكسير متاجر، والاعتداء على بنوك، وتصادم مع أفراد الشرطة، وإلقاء البيض على مسؤولين خلال مشاركتهم في فعاليات سياسية أو خدمية، وخلال الأسابيع الماضية تجددت المظاهرات تنديداً بالغلاء، ومطالبة بتوفير فرص عمل للعاطلين، وسعياً لوقف الحرب أو التوقف عن دعمها، وزعماء القارة يواصلون غيهم ولا يأخذون من القرارات ما يطمئن الناس على الحاضر المشؤوم والمستقبل غير المضمون.
رؤساء النقابات العمالية يصدرون تحذيرات من عواقب الغضب الذي يتزايد يوماً بعد يوم، وأبناء مدينة إيطالية يتظاهرون مطالبين بخروج الناتو من أوروبا، محملين إياه مسؤولية ما تتعرض له القارة، ووزيرة التنمية الألمانية تحذر من مجاعات مقبلة، وتشبه القادم لأوروبا بما حدث في العالم العربي: “هناك خطر اندلاع انتفاضات خبز، مثلما حدث قبل 11 عاماً في العالم العربي، ومعها موجة جديدة من عدم الاستقرار”.
وزير التغذية الألمانية يناشد مواطنيه بعدم التكالب على الشراء خوفاً من العواقب، وآلاف الإسبان يتظاهرون ضد رئيس وزرائهم رافعين شعارات سب وقذف، ووكالة معايير الغذاء البريطانية تكشف أن “ما يقرب من ربع البريطانيين تخلوا عن وجبة طعام على الأقل لأسباب مالية، وأن أسعار المواد الغذائية ستكون مصدر قلق لنحو 76% من البريطانيين في السنوات الثلاث المقبلة”، وأشهر شركات تصنيع السيارات والطائرات تعلن أن مصانعها مهددة بعد العقوبات على روسيا، والتي تسبّبت في فقدان معادن ومواد خام أساسية كانت تستوردها منها.
وأمين عام الأمم المتحدة غوتيريس يقر بأن “العالم مهدد بموجة غير مسبوقة من الجوع والعوز بسبب الحرب”، ولم يعد خافياً معاناة أوروبا من أزمة غذاء طاحنة، وأزمة وقود مزعجة نتيجة العقوبات على روسيا، وفي المقابل يدرس قادة أوروبا وأمريكا حزم عقوبات جديدة، وتعكف بعض برلماناتها على إقرار مزيد من الأسلحة لأوكرانيا، وكأن الهدف استمرار الحرب وتوسيعها، بدلاً من طرح مبادرات للحل ووقف نزيف الدماء في أوكرانيا، ومقاومة شبح الجوع القادم على الجميع.
أوروبا ستكون أكبر الخاسرين جراء هذه الحرب، وقد تتغير تركيبتها السكانية نتيجة موجات الهجرة القادمة من أوكرانيا، وموجات الهجرة الداخلية المتوقعة بين دولها، وموجات هجرة سكانها إلى الخارج بحثاً عن لقمة عيش أفضل خارج القارة، التي ظلت على مدار عقود وعقود حلماً لسكان القارات الأخرى.