الشرق اليوم – نشر مركز ستراتيجيكس للأبحاث والدراسات ورقة بحثية تتناول قراءة للمشهد السياسي في العراق بعد استقالة نواب التيار الصدري، وتحاول تبيان أسباب هذه الاستقالة وحيثياتها، وترسم سيناريوهات مستقبلية قد يلجئ إليها التيار الصدري لحل الاختناق السياسي الحاصل في البلاد.
وتاليا نص الورقة كاملا:
فاجئ التيار الصدري بقراره الانسحاب من البرلمان، الجميع في العراق من نخب وسياسيين وجماهير، بعد مرور 8 أشهر من الانسداد السياسي وفشل مشروع الأغلبية النيابية التي نادى بها الصدريون وحلفاءهم.
فلم يكن مألوفاً في العراق أن تنسحب الكتلة الأكبر في الانتخابات النيابية، إذ يملك التيار الصدري 73 مقعداً، ما يقارب 22% من البرلمان؛ وعليه فتح هذا الانسحاب الباب أمام عدة سيناريوهات تحمل في طياتها الكثير من التأويلات التي يكتنفها الغموض، وكانت إحدى هذه التأويلات بأن الانسحاب هو خطوة أولى في الدعوة لانتخابات مبكرة، خصوصا مع وجود حلف للصدريين مع “تحالف السيادة” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني” (يمثلون أكثر من نصف أعضاء البرلمان)، وعليه يستطيع الحلف التقدم نحو استقالات أخرى، أو تحويل سيناريو التعطيل فيشكل الحلف ذاته ثلثاً معطلاً في البرلمان لحكومة يقودها الإطار التنسيقي.
وعليه، تعكف هذه الورقة على قراءة المشهد العراقي ما بعد استقالة نواب التيار الصدري، والوقوف على أسبابها وحيثياتها، ومحاولة توقع الخطوات القادمة التي يُحضر لها التيار الصدري.
الهروب للأمام من تشكيل الحكومة
لم يكن الانسداد السياسي الذي تعيشه البلاد هو السبب الوحيد وراء طلب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من نوابه تقديم استقالاتهم لرئيس مجلس النواب في الحادي عشر من يونيو 2022، فهناك العديد من المُشكلات في العراق، التي تُثقل كاهل أي حكومة قادمة، وبسببها يتعذر على أطراف أزمة تشكيل الحكومة التفرد بحكومة تواجه مطالب شعبية بإصلاح المشكلات الراهنة، والتي لم تكن تشكل تحدياً يواجه الصدر وحلفائه فقط، فالإطار التنسيقي تحرج من المباشرة بتشكيل الحكومة بعد انسحاب الصدريين، وهذا ما أفرزته مواقف بعض القيادات داخل الإطار التي أكدت على ضرورة عدم السير في تشكيل الحكومة من دون الصدريين، ومن هذه المُشكلات:
1. انقطاع التيار الكهربائي بالتزامن مع موجات الحر الشديد، مع عدم إمكانية حلها في الوقت القريب.
2. المشكلات البيئية التي أصابت العالم وكان العراق أحد المتضررين بها، كموجات الأتربة والتصحر المرافق لقلة مياه الأمطار، وانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات لمشاكل متعلقة بالمنبع (تركيا، وإيران) وعدم وجود اتفاقات مكتملة بهذا الملف.
3. عودة الاحتجاجات المطلبية في عدة محافظات، والخاصة بعدد من الفئات كأصحاب الشهادات العليا، والمحاضرين، وأصحاب العقود، والعاطلين عن العمل، وأيضا لا يمكن حل مشكلتهم بالوقت القريب.
4. القضايا الدولية التي ترتبط بشكل أو بآخر بالعراق، وأهمها الأزمة الأوكرانية، والمفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني.
5. أزمة الغذاء وسلاسل التوريد المرافقة للحرب الأوكرانية.
كل تلك المشاكل والتحديات تجعل من تبني تشكيل الحكومة في الوقت الحالي، أمراً في غاية الخطورة، خصوصا وأن الحكومة المقبلة تأتي بعد المطالبات الجماهيرية (تشرين 2019-2020) بانتخابات مبكرة تتبنى فكرتي الإصلاح ومعالجة المشكلات.
معطيات انسحاب التيار الصدري
إن المعطيات سابقة الذكر، تنطبق على الإطار التنسيقي كما هي بالنسبة لتحالف الصدر، فحتى مع انسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان العراقي، من غير المُرجح أن يُقدم الإطار على تشكيل حكومة في ظل الأزمات السابقة، وقد يتطلب ذلك مضي ثلاثة أشهر على الأقل، تتجاوز فيها البلاد موجات الحر الشديد وسط انعدام في الخدمات المُرافقة الأخرى.
وعليه، تبدو دعوة الصدر لنوابه بالاستقالة، مُحضرة منذ مدة طويلة، وأعد لها بالاعتماد على معطيات ثلاثة تفرضها حيثيات الساحة السياسية، منها:
أولاً: يبقي الصدريون على حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها مصطفى الكاظمي، والتي يعدون الطرف الأقوى فيها، ودائماً ما وُصفت الحكومة من قبل المقربين من الإطار التنسيقي بكونها حكومة صدرية، ودلالتهم في ذلك، تبعية أمين عام مجلس الوزراء للتيار الصدري، وهو المنصب الذي يمتلك اليد الطولى في القرارات الهامة للبلاد، فضلا عن عدد من المناصب المهمة، ما يعني أن الصدريين جزء مؤثر في الحكومة الحالية، التي تتيح لهم ممارسة السلطة بمعزل عن فشلهم في تشكيل حكومة “توافقية”، مع العلم أن إقرار قانون الدعم الطارئ -سيتم التطرق إليه لاحقاً- يُتيح للحكومة الحالية التمويل اللازم لممارسة عملها بأريحية كاملة.
ثانياً: يُراهن التيار الصدري باستقالة أعضاءه من البرلمان، على القاعدة الجماهيرية التي يحظى بها، إذ يُعتبر من القوى القادرة على تحريك الشارع في العراق، حيث يمتثل جمهور التيار الصدري بمفهوم الطاعة، الذي يفتقده مؤيدو نظرائه من الأحزاب والقوى الأخرى.
ثالثاً: لا يُلغي انسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان، قُدرتهم على التأثير في عمله، فبعد أن كان الإطار التنسيقي يؤدي دور الثلث المُعطل لتشكيل الحكومة، بحكم قرار المحكمة الاتحادية بوجوب حضور ثلثي أعضاء البرلمان للتصويت على اختيار رئيس الجمهورية، أصبح الصدريون من خلال حلفائهم (السيادة والديمقراطي الكردستاني) في المجلس يُشكلون الثلث المُعطل.
مسارات الصدر ما بعد الانسحاب
برز حديث أكثر جدية عن المعارضة السياسية داخل البرلمان؛ بُعيد المرحلة البرلمانية السادسة في العراق (2021)، نظراً لوجود عدد لا يستهان به من المستقلين والأحزاب المعارضة للنهج السياسي القائم على المحاصصة.
ويُعرف أن التيار الصدري هو الطرف الأقوى في العملية السياسية، عندما يُمارسها بنمط المُعارضة الشعبية، إذ شاركوا في العديد من الاحتجاجات التي شهدها العراق بالأعوام السابقة، واللافت قُدرتهم على ممارسة المعارضة الشعبية حتى وهم جزء من البرلمان والحكومة، والسؤال هنا يتعلق في الكيفية التي سيُمارسون بها المُعارضة بعد أن تنازلوا عن تمثيلهم في البرلمان، وفشلوا في تشكيل حكومتهم المنشودة؟
يُمكن القول إن الصدر يستطيع التعويض عن فقدانه الأكثرية في مجلس النواب، بالاحتكام إلى الشارع، بعد فشل تشكيل الحكومة، وهي الطريقة الثانية التي تُمكنه من كسب دعم وتأييد الرأي العام، وتوجيهه وفق الآلية التي يراها مُناسبة، عبر مسارين محتملين:
المسار الأول: إرباك الأطراف في أزمة تشكيل الحكومة
تعمد الصدر اللجوء إلى هذا الطريق، بهدف إرباك خصومه السياسيين وتأخير إعلان مواقفهم من استقالة نوابه، حيث اقتصرت تصريحاتهم على الخطاب الدبلوماسي الحريص على عدم استباق حيثيات الأحداث، خشية منهم على ما يبدو من لجوء الصدر إلى الطريق الثاني المُتمثل بالحراك الجماهيري، الأمر الذي إن حدث يصبح من الصعب امتصاصه بأي مُبادرات لتشكيل الحكومة.
وباللجوء إلى هذه الخطة، يُنهي الصدريون، أي بادرة للتوافق على تشكيل للحكومة، بعد أن استعصى عليهم تشكيل حكومة أغلبية، وتفرض في الوقت ذاته قيوداً على الإطار التنسيقي وحلفائهم، تحول دون مُضيهم في تشكيل الحكومة بطريقة سلسة، في ظل تخوفهم من تحرك جماهيري غاضب، يقود العملية السياسية إلى مسارات لا يُمكن توقعها أو السيطرة عليها.
المسار الثاني: رسم مسار مستقبلي للاحتجاج
يُمكن للتيار الصدري أن يُمارس المعارضة، خارج مجلس النواب ضمن ما أطلق عليه البعض “حرق المراحل”، فهو يسعى لتأسيس نهج جديد من المُعارضة المقبولة شعبياً وسياسياً، والتي لا يُمكن ربطها بالتخريب، أو إلصاق الأجندة الخارجية بها، بما يُنشئ ثقافة سياسية جديدة، تختلف في مفاهيمها عن تلك التي راجت في عهد النظام السابق (ما قبل 2003).
ويُمكن استنتاج أن التيار الصدري يسعى لتحقيق أهدافه وطموحاته عبر العمل الاحتجاجي، وقد مكنه إقرار قانوني تجريم التطبيع مع إسرائيل والذي تم إقراره دون انتظار تشكيل الحكومة، وكذلك قانون الأمن الغذائي الطارئ والذي يوفر الغذاء والرواتب للحكومة حتى إكمال السنة الحالية، ليأتي قرار الاستقالة بعد إقرار القانون الأخير بيومين، من تحقيق ذلك، ومن خلال ما يلي:
1. إقرار قانون الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية: يُفترض أن يعالج أي توقف محتمل للمسار السياسي جراء التوجه لطريق الاحتجاجات، وتفادي تأثير ذلك على الوضع الاقتصادي، من خلال إمداد القانون للحكومة بالأموال اللازمة لها لإدارة شؤون الدولة، والذي حددت نفقاته بـ25 تريليون دينار عراقي (حوالي 17 مليار دولار)، بالرغم من كل الملابسات التي رافقته بدءً من الطعن فيه من قبل المحكمة الاتحادية وكذلك التشكيك فيه من قبل الأطراف السياسية الأخرى التي اعتبرته باباً جديداً للفساد.
2. إقرار قانون تجريم التطبيع: يقطع الطريق أمام خصوم الصدر، لإلصاق تُهم وذرائع بالاحتجاجات التي يبدو أنه يتجه لتحضيرها.
مواجهة مخاطر إفشال التشكيل (توصيات)
يتطلب حل أزمة تشكيل الحكومة في العراق، وما رافقها من تداعيات ترتبت على استقالة النواب الصدريين، المضي قدماً في عدد من الإجراءات التي من شأنها تخفيف حدة سيناريوهاتها المحتملة، منها:
1. التأخير في تشكيل الحكومة لما بعد اتفاق جديد مع الصدريين يضمن موقفهم الحيادي إزاء المشاريع الحكومية القادمة.
2. التعهد وفق اتفاق سياسي مع التيار الصدري، بإعطاء أي حكومة مُشكلة الفرصة لمدة لا تقل عن عام واحد، ليتم بعدها قياس إنجازاتها وإخفاقاتها.
3. العمل على منح جهة مستقلة في مجلس النواب، الحق في تشكيل الحكومة، وإن كان لهذا الطرح سلبياته، إلا أنه يأتي ضمن المساعي للحد من الاحتقان السياسي الذي فرضه استقالة النواب الصدريين.
4. من ضمن المهام الواجب الاتفاق حولها، أن تعكف الحكومة المُشكلة على التحضير لانتخابات نيابية مُبكرة، يُشارك بها الجميع، وبقانون انتخابي مرضي لهم.
حتى وإن كانت الحلول أعلاه لا تمثل منعطفا تقدميا نحو إصلاح العمل السياسي، إلا أنها قادرة على التخفيف من حدة المضاعفات التي قد تحدث مستقبلاً جراء انسحاب الصدريين، حيث أن عدم التعامل معها بجدية كاملة يهدد بتعريض العمل السياسي لمخاطر كبيرة، وهو ما يبدو أن الإطار التنسيقي قد وعيه بوضوح بعد إعلانه بأن فراغ الصدريين في العمل السياسي لا يمكن أن يملئ إلا بوجودهم.
الكاتب د. عدنان الربيعي
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.