بقلم: الحسين الزاوي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – يتجاوز الحديث عن القوة الحالية للصين، نطاق القوالب الجاهزة المعتمدة في التصنيفات الكلاسيكية للعلاقات الدولية، نظراً للخصوصيات التاريخية والثقافية للإمبراطورية الصينية التي عاشت لقرون طويلة من الزمن في عزلة إرادية عن العالم الخارجي، في جغرافية ما يعرف بسور الصين العظيم. وتدفعنا هذه الخصوصيات إلى اعتماد مقاربة مغايرة للقوة المتنامية للصين، من منطلق كونها قوة فريدة من نوعها تغلب عليها سمة التحفظ وتمارس أيضاً أسلوباً شديد الحذر في العلاقات الدولية يتجاوز أسلوب القوة الناعمة الذي تعتمده الدول العظمى الأخرى في علاقاتها مع دول العالم؛ إذ إن الصين لا تسعى إلى ممارسة تأثير ثقافي على الدول بقدر ما تطمح لدفعها إلى تفضيل منتجاتها المادية على منتجات القوى المنافسة لها مع المحافظة على خصوصياتها الحضارية والثقافية.
ويؤدي هذا النموذج القائم على القوة المتحفظة إلى النظر إلى مسألة التحالف مع القوى الأخرى الصديقة لها من زاوية مختلفة، ويقول إيمانويل دوبوا دوبريسك عن مثل هذا التحالف إنه تحالف ريبي وناقص وربما غير موفق أحياناً لكونه يقدم يداً ويحتفظ بالأخرى، في سياق سياسة راسخة في التاريخ قائمة على الحذر من الآخر حتى وإن كان صديقاً تربطه مصالح حيوية بالصين كما هو الشأن بالنسبة لروسيا؛ حيث لا تريد بكين أن تكون رهينة لعلاقة ملتبسة وغير مضمونة النتائج مع موسكو، وترفض من ثم نموذج التحالفات الغربية القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، والذي يؤدي في أحايين كثيرة إلى الإضرار بالمصالح الاستراتيجية للدول الأوروبية من أجل إرضاء واشنطن، لأنه نموذج يسيء إلى مصالح وسيادة الدول، ويكون مرادفاً، في بعض المواقف، للتبعية.
وتملك الصين في تاريخها المعاصر تجربة محبطة بشأن التحالف مع الآخر، لاسيما مع الاتحاد السوفييتي في فترة الخمسينات من القرن الماضي؛ حيث استمرت العلاقات مع حليفها في التراجع إلى أن وصلت سنة 1969 إلى مواجهة مسلحة معه لأسباب تتعلق بالخلاف الحدودي بين القوتين؛ وبالتالي فإن تقاطع المصالح الذي نلحظه في هذه المرحلة بين موسكو وبكين، يستبعد المراقبون أن يتحوّل إلى تحالف يتجاوز متطلبات الشراكة التي تفرضها المصلحة الراهنة للدولتين.
ونستطيع أن نفسّر سيادة هذا النموذج من العلاقات من منطلق أن هناك اختلافات جوهرية من الناحية الثقافية والتاريخية بين بكين وموسكو، تجعل كلتا العاصمتين تبديان تحفظهما بشأن تحقيق تكامل استراتيجي شامل ودائم بينهما، لأسباب عديدة من أبرزها أن الصين تمثل نموذج نظام الحكم الشرقي في أكثر تجلياته صلابة وانغلاقاً بالنسبة لعلاقة الحكام بالمحكومين، بينما تظل روسيا متأرجحة بين تراثين متناقضين أحدهما غربي والآخر شرقي، وينعكس كل ذلك على ردود أفعالها المتناقضة نحو جيرانها في الغرب، وبخاصة أن جيرانها في الشرق ينظرون إليها بوصفها امتداداً لحضارة الرجل الأبيض في أوروبا، وينظر إليها الغرب في المقابل انطلاقاً من المقولة الرائجة: «اكشط الروسي يتبين لك أنه تتري».
بيد أن هذه التناقضات التي يمكن أن نلاحظها بالنسبة للتوجهات الكبرى لكل من الصين وروسيا، لا تمنع حدوث تقارب وتواطؤ متزايد في المواقف الاستراتيجية بين البلدين، ليس فقط بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا التي أكدت الصين بشأنها أنها تدعم المصالح السيادية لروسيا في مواجهة الأطماع التوسعية للغرب، لكن أيضاً نتيجة لقيام هذا الغرب بقيادة «تحالف العيون الخمسة» وتوابعه في أوروبا، بشن حرب تصفها بكين بالقذرة ضدها في المحيط الهادئ من خلال محاولة اختراقها أمنياً عن طريق تجنيد عدد كبير من العملاء من الشتات الصيني المتواجد في الغرب، لاسيما في أستراليا ونيوزيلندا، من أجل فك شفرة المنظومة الدفاعية الصينية؛ الأمر الذي يتطلب تنسيقاً استخباراتياً على أعلى مستوى بين الصين وروسيا.
وعليه فإن التركيز في هذا السياق على الطابع المتحفظ والحذر للقوة الصينية في علاقاتها الخارجية لا يعني البتة أن بكين تفضل خيار العزلة، لأن العزلة باتت تمثل ترفاً لا تستطيع أي قوة أن تراهن عليه في زمن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، لكنه يشير إلى أن السياسة تتيح خيارات أخرى غير تقليدية وبعيدة بشكل واضح عن الحدين المتضادين لمعادلتي المواجهة والتحالف في العلاقات الدولية.