بقلم: أندرو ميشتا
الشرق اليوم- دخلت الحرب في أوكرانيا شهرها الرابع وبدأت تتحول إلى حرب استنزاف، تسحق القوات الأوكرانية والروسية في آن، وتمعن في قتل المدنيين بسبب القصف الروسي العشوائي وتدمير البنى التحتية.
اليوم، تتصاعد الدعوات وسط السياسيين في غرب أوروبا وخبراء الأمن القومي حول ضرورة وقف إطلاق النار فوراً، إذ يخشى عدد كبير من الحكومات الأوروبية أن تتفاقم الحرب إذا لم يتوقف القتال وتصل إلى مرحلة تدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استعمال الأسلحة الكيماوية أو النووية، وهذا ما يفسّر التردد الواضح في تقديم أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا، لا سيما في فرنسا وألمانيا، وعلى رأسها الأسلحة التي تسمح بقلب الطاولة على روسيا وتحرير الأراضي المحتلة.
لكنّ زيادة الدعوات إلى وقف إطلاق النار في الغرب تكشف أيضاً غياب الابتكار الاستراتيجي حول شكل أوروبا المحتمل إذا حصلت كييف على الأسلحة والدعم الكافي لهزم الجيش الروسي ميدانياً.
في الوقت الراهن، يتعلق أكبر عائق يمنع الغرب من تقديم دعم عسكري واقتصادي شامل إلى أوكرانيا بعجزه عن تصوّر تركيبة جديدة للسلطة في شرق أوروبا، على أن ترتكز تلك التركيبة على ممر من دول الناتو بين بحر البلطيق والبحر الأسود وتصطف مع الولايات المتحدة، وفي حين تستعد فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو، أصبحت أوروبا على شفير تغيّر جيوسياسي جذري، بما يشبه ما حصل في نهاية الحرب العالمية الأولى.
لا يتمحور الدفاع عن أوكرانيا حول السيادة الوطنية ووحدة الأراضي فحسب (مع أنهما من المبادئ التأسيسية للحُكم الديموقراطي تاريخياً)، بل إنه يتعلق في نهاية المطاف بإخراج روسيا من أوروبا وإنهاء ثلاثة عقود من الحملات الإمبريالية، بعبارة أخرى، قد تتلاشى مزاعم روسيا التي تعتبر نفسها “قوة أوراسية أساسية في أوروبا” عند استقلال أوكرانيا وبعدها بيلاروسيا (حين تدافع أوكرانيا عن سيادتها وأراضيها، لن تبقى مينسك جزءاً من المحور الروسي لفترة طويلة).
في هذه الحالة قد تضطر موسكو، للمرة الأولى في تاريخها الحديث، لتقبّل الشروط المطلوبة منها، اقتصادياً وسياسياً، كي تصبح دولة قومية “طبيعية”.
على المستوى الجيوستراتيجي، قد يؤدي نشوء نسخة حرّة ومستقلة وناجحة من أوكرانيا المصطفة مع الغرب إلى إنهاء أزمة مزدوجة حاول التحالف الصيني الروسي افتعالها ضد الولايات المتحدة، فحين تفرض واشنطن الأمن في الجناح الشرقي لأوروبا عبر الاتكال على دولٍ تتابع اعتبار تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة أساسياً لحماية أمنها وتبدي استعدادها لتقوية دفاعاتها، ستتمكن الولايات المتحدة حينها من التركيز على المنافسة المرتقبة مع الصين في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، مما يجعل مقاربة التوجه نحو المحور الآسيوي محط جدل واسع.
أخيراً وليس آخراً، قد تُمهّد هزيمة الجيش الروسي في أوكرانيا لتغيير طريقة تقاسم السلطة في أوروبا، فينتقل مركز الثقل من التحالف الفرنسي الألماني إلى دول أوروبا الوسطى ويشمل ألمانيا، وبولندا، والدول الاسكندنافية، والبلطيق، ولا سيما أوكرانيا.
يسهل أن تغيّر أوكرانيا، بعد إعادة إعمارها، ديناميات السلطة في أوروبا وجميع أنحاء العالم نظراً إلى امتلاكها مجموعة واسعة من الموارد الطبيعية وباعتبارها من أغنى الأراضي الزراعية في العالم، لكن يُفترض ألا تُبنى على طريقة الدول بعد الحقبة السوفياتية بل كنظام ديموقراطي مزدهر ومتكامل مع الاقتصاد الأوروبي.
هذه الحرب التي فرضتها خطة بوتين الإمبريالية الجديدة على أوكرانيا والغرب ككل بدأت تُغيّر معالم أوروبا منذ الآن، فقد منحت الغرب الديموقراطي فرصة لا يمكن الحصول عليها إلا مرة واحدة كل أربعة أو خمسة أجيال لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في القارة الأوروبية، فيجب أن يتحلى الجميع إذاً بالشجاعة الكافية لمساعدة أوكرانيا في تحقيق الفوز.