الرئيسية / مقالات رأي / مستقبل الليبرالية الديمقراطية

مستقبل الليبرالية الديمقراطية

بقلم: د. السيد ولد أباه

الشرق اليوم- في باريس حيث كنت الأسبوع الماضي، حضرتُ إعلان نتائج الشوط الأول من الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي كانت سمتها الأساسية تصدُّر قائمة اليسار الموحد السباقَ، متقدمةً على الكتلة الليبرالية الداعمة للرئيس ماكرون والجبهة اليمنية الراديكالية التي تقودها “مارين لوبن”.

ما ظهر أنه انقسام جديد في فرنسا بين أقطاب ثلاثة متكافئة (يمين متشدد ووسط ليبرالي ويسار إيكولوجي)، هو في حقيقته وضع يطبع تقريباً كلَّ الديمقراطيات الغربية من إسبانيا واليونان إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبالرجوع إلى الخارطة المجتمعية لهذه التيارات السياسية المتصارعة، يظهر أنها تعكس التصدعات والتوترات التي تعرفها المجتمعات الصناعية الليبرالية منذ سنوات حول رهان رئيسي هو طبيعة القرار السياسي في سياق الرأسمالية الرقمية المالية المعولمة بنتائجها المعروفة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

لهذا الرهان بعدان يتعلق أولهما بالأنظمة التمثيلية والسياسات العمومية ويتعلق ثانيهما بالوعي الجمعي وإشكالات الهوية الخصوصية. في مواجهة هذا الرهان، تضاءلت الحدود التقليدية بين اليمين واليسار، وكادت تتماهى الليبرالية الوسطية التي تحول إليها تدريجياً اليمين والاشتراكية الاجتماعية التي اعتمدتها أحزاب اليسار في تجارب الحكم.

تصالحت الأحزاب الليبرالية التقليدية مع أفكار التخطيط وتدخل الدولة الرقابي والحمائي، وتصالح اليسار مع اقتصاد السوق وتحرير التجارة الدولية. ما جمع بين الاتجاهين هو الاندماج في نفس المقاربة التي أطلق عليها البعض “النيوليبرالية التسلطية” أو “رأسمالية الرقابة”، وهما عبارتان تدلان على الحاجة المتزايدة إلى تدخل الدولة في ضبط وإدارة الرأسمالية الجديدة المعولمة.

وهكذا نمت على هامش هذه التأليفية الجديدة نزعات شعبوية احتجاجية من اليمين المتشدد واليسار الراديكالي أصبحت على تعارضها الجذري تحتل في جل الديمقراطيات الغربية أكثر من نصف أصوات القاعدة الاجتماعية العريضة وتهدد استقرار وسكينة الأنظمة السياسية القائمة على الشرعية الانتخابية. مَن كان يعتقد في فرنسا أن الحزب الديغولي العتيد والحزب الاشتراكي القوي سينهاران كلياً في الحلبة الانتخابية، كما ظهر في الاستحقاقات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، في الوقت الذي أصبح اليمين القومي واليسار المتحالف مع أحزاب البيئة الصغيرة هما الكتلة الحاسمة في رسم المستقبل السياسي الفرنسي؟

شاع في السنوات الماضية أن اليسار قد اختفى من الحياة السياسية في الديمقراطيات الغربية نتيجة للانهيار المزدوج لطبقة الشغيلة والأيديولوجيا الماركسية، وقيل إن العالَمَ دخل مرحلةَ ما بعد السياسة بتحول ممارسة الحكم إلى نمط من التقنيات التسييرية العمومية التي لا تختلف من بلد لآخر. بيد أن الأزمات الثلاث التي عرفها العالم منذ العقد الماضي: الأزمة الأمنية المرتبطة بالإرهاب، والأزمة المالية الاقتصادية، والأزمة الصحية الأخيرة، وقد أضيفت لها حالياً الأزمة الجيوسياسية المتعلقة بالحرب الأوكرانية.. قد نجمت عنها عودة الانفعالات السياسية القوية إلى الواجهة. كان الفيلسوف الهولندي المعروف سبينوزا يقول إن مدار السياسة هو العواطف والأهواء من رغبة وخوف، وإن الأفكار في المجال العمومي لا أثر لها إن لم تستند لانفعالات قوية ومؤثرة.

وما حدث في السنوات الأخيرة هو طغيان مشاعر الخوف والنقمة والاستياء في المجتمعات الصناعية الليبرالية على أصعد عديدة، بحيث تنامت التيارات الشعبوبة، اليمينية واليسارية، التي تفاعلت إيجابياً مع هذه المناخ النفسي الجديد.

وإذا كانت قاعدة اليمين الشعبوي هي الطبقات الاجتماعية التقليدية المتذمرة من وقع الهجرة والتنوع الثقافي، وكانت قاعدة اليسار الجديد هي الطبقات الهشة اقتصادياً والمتشكلة أساساً من أوساط الهجرة والمجموعات الحقوقية، فإنما يجمع بين الطرفين هو رفض التصور الاندماجي التوافقي للحقل العمومي الذي هو أساس عقلانية الفعل السياسي واستقراره. الفكرة الأساسية التي يقوم عليها اليوم اليمين الشعبوي في فرنسا هي أطروحة “الاستبدال الكبير” التي هي في أصلها نظرية ظهرت في أوساط النزعات القومية المتشددة وفحواها هو التحذير من أن أوروبا مهددة في نقائها وهويتها الدينية والثقافية جراء الهجرات والديانات الوافدة.

أما اليسار الجديد فيرفع شعار القطيعة مع الرأسمالية المالية العالمية ويتبنى مسلك “الديمقراطية الصراعية” الذي بلورته الفيلسوفة البلجيكية “شانتال موف” بديلا عن الديمقراطية التعاقدية التمثيلية. في خضم هذه التحولات الهائلة، يتمحور الصدام السياسي الجديد حول إشكالية السيادة والحماية التي يبدو أنها ستكون حاسمة في الخطاب الفكري والأيديولوجي للديمقراطيات الغربية مستقبلاً. وسيكون التيار الأقدر على استيعاب وضبط هذه الإشكالية وتقديم الحلول الناجعة لها هو المؤهل لقيادة هذه البلدان وإخراجها من أزماتها الداخلية الراهنة.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …