بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم- لم تحظَ زيارة رئيس أمريكي للشرق الأوسط بمثل الاهتمام الذي تحظى به زيارة الرئيس جو بايدن التي ستقوده الى إسرائيل والمملكة العربية السعودية في مطلع الشهر القادم. فالزيارة تأتي في مرحلة مواجهة استراتيجية بين الغرب ومنافسَيْه الاستراتيجيَيْن الكبيرَيْن، روسيا والصين.
وقد تكون الحرب في أوكرانيا التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) المنصرم إحدى مقدمات الحروب المقبلة المحتملة بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وما يمنح الحرب الدائرة في أوكرانيا الأهمية في عملية بلورة موازين القوى بين الكبار في العالم لعقود مقبلة، إعلان الرئيس الروسي قبل أيام من على منبر “منتدى بطرسبورغ الاقتصادي” أن نظام الأحادية في العالم انتهى. بمعنى أن التفوق الأمريكي انتهى من خلال المواجهة المفتوحة التي تخوضها روسيا ضد الغرب في أوكرانيا ويتأثر بها العالم في كل مكان، لا سيما على المستوى الاقتصادي، أكان بالنسبة الى امدادات النفط والغاز التي تأثرت كثيراً، وأثرت في الغرب وبقية العالم، أم بالنسبة الى امدادت الغذاء التي ترجم تراجعها أزمات حادة، تحديداً في العالم النامي المهدد في بعض الأقاليم بأزمة قد تصل الى حد المجاعة.
وبالطبع، إن الرئيس الروسي بحديثه عن انتهاء الأحادية في العالم، يشير أيضاً إلى نمو الصين، وتقدمها لتصبح قوة عالمية كبرى، وتحديداً القوة التجارية الأولى في العالم، بالتزامن مع نمو قوتها العسكرية طامحة للارتقاء الى مصاف القوة العظمى القادرة على التفكير بالتدخل العسكري في خارج حدودها، وصولاً الى أقاليم بعيدة من العالم.
بالطبع لم ينتهِ التفوق الأمريكي. لا تزال الولايات المتحدة القوة التي وحدها يمكن وصفها بالعظمى. روسيا ما عادت قوة عظمى، إنها قوة كبرى، تمتلك قدرات نووية ضخمة موروثة عن الاتحاد السوفياتي، ولكن اقتصادها صغير مقارنة بقوتها العسكرية. ومن أجل أن تصنف قوة عظمى تحتاج الى أن تضافر عناصر عدة (قوة تفتقد إليها) بعضها مع بعض لكي تكتمل الدائرة. من ناحيتها لا تزال الصين الأقوى اقتصادياً من روسيا تحتاج من أجل أن تصبح قوة عسكرية عظمى منافسة للولايات المتحدة أن تطور صناعاتها العسكرية من أجل أن ترتقي وتلحق بالصناعات العسكرية الأميركية والغربية عموماً!
في مطلق الأحوال دخل العالم منذ اندلاع حرب أوكرانيا في مرحلة مواجهة جديدة. هذه المرحلة تقطع بالنسبة الى الإدارة الأمريكية الحالية مع سابقتها، وقد تميزت بشيء من الانكفاء الأمريكي في العالم، في مقابل التركيز على المنافسة مع الصين في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، بالتزامن مع البدء بإخلاء الفضاءات الجغرافية الأخرى. من هنا بدت أوروبا، والشرق الأوسط مناطق مفتوحة أمام تقدم القوى المنافسة كروسيا التي أتت حسابات رئيسها لتدفعه الى خوض مغامرة تفكيك أوروبا وحلف شمال الاطلسي “الناتو ” من خلال اجتياح أوكرانيا وتهديد البنيان الغربي السياسي، الاقتصادي والأمني، مع ما يشكله ذلك من انعكاسات مباشرة على أمن الولايات المتحدة القومي ومكانتها في العالم.
أدت حرب أوكرانيا الى نشوب المواجهة الأولى بين الحلف الروسي – الصيني والغرب. ولكن المواجهة لن تبقى ضمن حدود القارة الأوروبية، بل إن أقاليم أخرى يمكن أن تشهد تمدداً في المواجهة التي ستتخذ أشكالاً عسكرية، أمنية واقتصادية. الشرق الأوسط هو أحد الأقاليم المرشحة لمواجهة مقبلة بين حلف موسكو – بكين والغرب عموماً. هذه المواجهة ممكنة في ظل التحالف القائم بين احدى القوى الإقليمية الأكثر قوة أي إيران، مع حلف روسيا – الصين. فإيران قوة مركزية، ولها امتداداتها في المنطقة ضمن ما يسمى بـ”حلف الممانعة”، من العراق الى سوريا، لبنان، غزة واليمن. وهي تمتلك قدرة إيذاء كبيرة في المنطقة، وخصوصاً لجهة محاولاتها الدائمة اختراق المجتمعات العربية، من أجل تفتيتها، وإحداث انقسامات تحت شعارات قضايا تهم الأمة العربية والإسلامية مثل القضية الفلسطينية التي نجحت طهران في استغلالها، والاستفادة منها الى اقصى الحدود.
روسيا والصين تعرفان أن العلاقات مع الدول العربية المركزية التي تعتبر حليفة تاريخية للولايات المتحدة منذ عقود، لا يمكن الرهان سوى على طبيعة اقتصادية وتجارية لها. العلاقات الأمنية والعسكرية مع هذه الدول غير ممكنة إلا بحدود ضيقة للغاية. لا تزال هذه الدول، أكانت الدول الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي أو مصر، أو الأردن، أو إسرائيل التي تنتسب إلى الإقليم عبر تحالفات مستجدة منذ بضع سنوات، جزءاً من الفضاء الغربي.
هذه الدول بدأت تحيك في ما بينها علاقات تحالفية على أكثر من صعيد. وقد شكل “السلام الإبراهيمي” بين إسرائيل وعدد من الدول العربية ركناً أساسياً في العلاقات التحالفية التي امتدت الى التعاون الاقتصادي والأمن. روسيا والصين تعرفان أن الساحة لا تزال صعبة للغاية. صحيح أن العلاقات الأميركية مع حلفائها في المنطقة قد ساءت في الأعوام الأخيرة، لكن الصحيح أيضاً أن خيارات واشنطن وهذه الدول المركزية في المنطقة لم تتغير في العمق. إنها علاقات تنوء تحت ثقل المشاكل، والخلافات، وسوء الفهم والتقدير، وأكثره من جانب الولايات المتحدة. لكنها العلاقات الأكثر ثباتاً ورسوخاً، على الرغم من أن طبيعة التحالف تغيرت، ومعها ترجماتها بالعملية.
الرئيس جو بايدن الآتي الى المنطقة وخلفة حرب مشتعلة في أوكرانيا، وحروب أخرى يمكن أن تشتعل في أماكن أخرى، يجد أمامه حلفاء أعادوا ترتيب أوراقهم في المنطقة. فمن الناحية العملية هم حلفاء من دون تدخل أمريكي. إنهم حلفاء من أجل حماية مصالحهم بمعزل عن الضمانات الأمنية الأمريكية التي لطالما سادت في المنطقة منذ منتصف القرن الماضي. أهمية الزيارة الرئاسية الأمريكية أن بايدن يجد أمامه قوى إقليمية حليفة لكن من منطلقات مختلفة عما سبق، إنها حليفة في اطار معادلة المصالح المشتركة، والأهم أن البنيان الإقليمي الذي بدأ يترسخ قوي ومتعدد الوجه. إنه مسار إقليمي واسع يشمل في عداده دول مجلس التعاون الخليجي، مصر، الأردن، إسرائيل، ومن بعيد تركيا. وحدها إيران خارج التحالفات الإقليمية الكبرى. إنها قوة الإيذاء التي سيتعين على الحلفاء الكبار، ومن خلفهم أمريكا مواجهتها، وخصوصاً أنها باتت الخصم الوحيد في المنطقة.
سيأتي الرئيس الأمريكي الى المنطقة لإصلاح علاقات بلاده مع حلفائها التاريخيين. ولكنه سيكون مدعواً الى الإقرار بأن “خيار إيران” الذي أرساه الرئيس الأسبق باراك أوباما تمهيداً للاتفاق النووي للعام 2015، انتهى، وخصوصاً أن إيران اقتربت كثيراً من القدرة على انتاج قنبلتها النووية الأولى. هذا وحده سيكون في حسابات دول المنطقة دافعاً كافياً لقيام تحالف إقليمي كبير وإسرائيل جزء منه يمتد من الخليج الى المحيط لاحتواء الإيذاء الإيراني.