بقلم: سليمان جودة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- يأبى هنري كيسنجر إلا أن يملأ الدنيا ويشغل الناس في كل مرة يتكلم فيها، وقد حدث هذا من جديد عندما تحدث الشهر الماضي أمام منتدى دافوس في سويسرا.
ولأن الرجل في التاسعة والتسعين من عمره، فإنه يجلس على تجربة طويلة من العمل السياسي الفكري والعملي، وقد كانت بدايته مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، التي جمع فيها كيسنجر بين موقع وزير الخارجية وموقع مستشار الأمن القومي معاً.
ومن الواضح أن عامل الزمن قد نال منه على المستوى البدني، بدليل أنه ظهر في دافوس متكئاً على عصا، لكن توقده العقلي لا يزال فيما يبدو كما هو، ولا يزال قادراً على أن يطلق من الآراء ووجهات النظر، ما يؤدي إلى الكثير من الجدل.
ولأن حديثه أمام المنتدى كان في القضية الأم في العالم هذه الأيام، وهي بالطبع قضية الحرب الروسية في أوكرانيا فلقد كان من الطبيعي أن يدور جدل واسع حول ما قاله .. فالمتحدث مهم لا شك في ذلك، والقضية مهمة هي الأخرى بما يكفي ولا شك في هذا.
من قبل كان كثيرون يأخذون عليه أن نصائحه السياسية للإدارات المتعاقبة في بلاده كانت سبباً في معاناة الملايين حول العالم، لا لشيء، إلا لأنه كان صاحب مدرسة في السياسة الأمريكية تقول إن على الولايات المتحدة إذا تصدت لمشكلة في عالمنا المعاصر بين دولتين أو أكثر، أن تعمل طول الوقت على إدارتها بدلاً من العمل على حلها، وقد أدى ذلك إلى أن مشكلات وقضايا دولية بلا حصر قد عاشت عشرات السنين في مكانها، دون أن تجد حلاً يريح أطرافها المختلفة من عناء الصراع.
ولو بحثت عن نموذج لذلك، فلن تعثر على أفضل من القضية الفلسطينية مثالاً صارخاً على قضية تتحرك في مكانها طول الوقت، بينما أصحابها من الفلسطينيين يدفعون الثمن في كل يوم.
وفي حديثه في دافوس قال إن الحرب الروسية على أوكرانيا يجب أن تتوقف بسرعة، وأن تفاهماً بين طرفيها لا بد أن يتم، وأن هذا التفاهم يجب أن يحفظ مكانة روسيا بقدر ما يحفظ مكانة أوكرانيا في الوقت ذاته، وأنه لا مانع من أن تتنازل الحكومة الأوكرانية عن بعض المناطق للروس كالقرم مثلاً، وأن ذلك إذا لم يحدث فسوف لا تتوقف الحرب، وسوف تتحول روسيا إلى موقع أمامي للصين في مواجهة أمريكا .
هذه المرة تراه وهو يفكر حسب المذهب السياسي الواقعي، الذي يتطلع إلى الأمور وفق مقتضيات الواقع ومتطلباته، لا على أساس من المثالية أو من الخيال.
الواقعية السياسية تنطبق على الشق الأول من حديثه، أكثر مما تنطبق على الشق الثاني المتعلق بتنازل الأوكرانيين عن أرضهم أو عن جزء منها، لأنه ليس من الواقعية في شيء أن تطالب شعباً في العالم بذلك، ولأن شعباً في الأرض لن يوافق على مثل هذا الفهم، ولأنه مطلب يؤسس لمبدأ يمكن أن يؤدي الى مشكلات بلا حصر بين مختلف الدول.
وقد كان وزير خارجية أوكرانيا واضحاً في الرد على هذا الطرح عندما قال: لا تنازل عن غرام من السيادة .. ولا عن سنتيمتر من الأرض.
ولو وجد العالم عاصمة مؤثرة تعمل على الشق الأول من كلام الرجل بجد وإخلاص فالغالب أن الحرب ستتوقف، ولا تزال باريس هي أقرب العواصم إلى ذلك، لأن رئيسها إيمانويل ماكرون لا ينسى انتماءه الأوروبي وهو يتحرك في اتجاه الحل منذ بدء الحرب، ثم وهو يؤكد في الوقت نفسه أن الهدف من جانب حلف شمال الأطلنطي يجب ألاّ يكون إذلال روسيا.