بقلم: أنس بن فيصل الحجي – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- هل وصلت الدول الأوروبية إلى أوج حضارتها وبدأت بالانحدار؟ وإذا كان هذا هو الواقع، هل يسهم هذا في صعود دول عربية وإسلامية؟ سؤالان كبيران، لا يمكن الإجابة عنهما بسهولة، ولن يتفق الخبراء والفلاسفة على جواب واحد، ولكن سأركز في مقال اليوم على بعض النقاط التي تعطي الجواب: نعم، ونعم!
عانت أوروبا من أزمة طاقة خانقة قبل الحرب الروسية على أوكرانيا بأشهر، وارتفعت أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية. ثم قامت روسيا بالهجوم على أوكرانيا، فماذا حصل؟ قامت دول الاتحاد الأوروبي بتحويل اعتمادها على واردات الغاز الطبيعي من روسيا إلى الولايات المتحدة! إذا كانت أوروبا رهينة لروسيا بسبب اعتمادها التاريخي على الغاز الروسي، فإن كل ما قامت به هو أخذ رسنها من يد بوتين وتسلميه لبايدن! المشكلة أن واردات الغاز الروسي أكثر أمناً من واردات الغاز الأميركي لأسباب طبيعية وسياسية واقتصادية. وبدا هذا ظاهراً الأسبوع الماضي، بعد توقف محطة غاز مسال أميركية بعد نشوب حريق فيها.
أحد الأسباب الرئيسة لأزمة الطاقة في أوروبا هو تركيزها على سياسات التغير المناخي والحياد الكربوني على حساب الأمن الاقتصادي وأمن الطاقة. المشكلة هنا أن أوروبا ضد الوقود الأحفوري وعمليات الحفر التي يتطلبها إنتاج الفحم والنفط والغاز، ولكن ليس لديها مشكلة في المناجم الضخمة للمعادن اللازمة لتحول الطاقة والاقتصاد الأخضر! بعبارة أخرى، أوروبا تحولت من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى الاعتماد على المعادن التي تتطلب حفر مناجم ضخمة. أوروبا تحولت من الاعتماد على مصدر طبيعي إلى مصدر طبيعي آخر! أوروبا تحولت إلى مصدر أقل أمناً من المصدر الذي كانت تعتمد عليه سابقاً.
السيارات الكهربائية
قرر الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، وقف بيع سيارات البنزين والديزل بعد عام 2035، بهدف تحقيق الحياد الكربوني. ولكن هذه السياسة ستنقل الاتحاد الأوروبي من الاعتماد على نفسه في أغلب ما تحتاجه السيارات حالياً إلى الاعتماد على دول غير صديقة للاتحاد الأوروبي مثل الصين وروسيا وتركيا، ودول بعيدة مثل البرازيل وبوليفيا وأستراليا.
أغلب ما تحتاجه من بطاريات السيارات الكهربائية يأتي من الدول المذكورة أعلاه. إلا أن المشكلة الأكبر هي أن هذه المعادن تحتاج إلى معالجة، والدولة التي تسيطر على معالجة أغلب المعادن اللازمة للطاقة “الخضراء” والسيارات الكهربائية في العالم هي الصين. قرار الاتحاد الأوروبي بمنع بيع سيارات البنزين والديزل الجديدة بعد عام 2035 يعني أن قطاع المواصلات الأوروبي سيكون رهينةً للصين. إذا كانت الولايات المتحدة غير راضية عن اعتماد أوروبا على روسيا، فهل سترضى أن تعتمد على الصين؟
تاريخياً، كان الشرق الأوسط هو الكرة التي تتقاذفها الدول العظمى، إلا أن الوضع بعد الحرب الروسية الأوكرانية، والتخبط الأوروبي في التعامل مع الأزمة، وأزمة الطاقة قبلها، وعدم قدرة أوروبا على إيجاد حلول سوى التنقل من اعتماد على دولة إلى دولة أخرى، أو من مصدر طبيعي إلى آخر، يوضح أن أوروبا هي الكرة التي تتقاذفها القوى العظمى. ومن عجائب القدر أن الاتحاد الأوروبي عارض بشدة انضمام تركيا إليه، إلا أن مستقبل الحياد الكربوني في أوروبا مرتبط بتركيا لأن لديها أكبر مخزون في العالم من الغرافيت، وهو مادة أساسية في البطاريات الكهربائية.
كل هذه الجهود التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي لنشر السيارات الكهربائية محدودة الأثر بيئياً. فإذا تم تحويل كل السيارات في الاتحاد الأوروبي إلى كهربائية، وجاءت الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح، فإن هذا سيخفض انبعاثات الكربون عالمياً بأقل من 2 في المئة. نعم، قرأتها بشكل صحيح: أقل من 2 في المئة!
الهيدروجين والنفط والغاز ودول الخليج
السبب الرئيس لأزمة الطاقة المقبلة لا يتمثل فقط في انخفاض الاستثمار في قطاع النفط والغاز في السنوات الماضية، أو عدم كفاية الاستثمارات في قطاعَي الطاقة الشمسية والرياح، وإنما في فشل جزء كبير من سياسات التغير المناخي، الأمر الذي يعني زيادة الطلب على النفط والغاز. ونظراً لأن هذه الدول ستطبق ما تستطيع تطبيقه من سياسات التغير المناخي، فإن طلبها على الهيدروجين سيزيد.
اعتماد أوروبا المستقبلي سيكون على أميركا والصين وتركيا… ودول الخليج! اعتمادها على النفط الخليجي سيزيد بسبب فشل جزء من سياسات التغير المناخي. ولكن حتى لو انخفض الطلب على النفط، فإن الطلب على الغاز الطبيعي سيزيد على كل الحالات، بخاصة من قطر. إلا أن أغلب دول الخليج تخطط لإنتاج الهيدروجين بكميات كبيرة، بغض النظر عما إذا كان أخضر أو رمادياً أو أزرق، ولكن الدول الغربية تريده لأنه يتوافق مع سياسات الحياد الكربوني. النتيجة الحتمية هي زيادة اعتماد الدول الأوروبية على دول الخليج.
النتيجة هي صعود اقتصادي لبعض الدول العربية وتركيا على حساب الدول الأوروبية، ومن ثم فإنه يمكن القول، إن ما يحصل الآن بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وتطبيق سياسات التغير المناخي حالياً، تؤدي إلى تغيرات دولية ضخمة ستؤدي إلى هبوط دول وصعود دول. الدول الأوروبية ستدفع ثمناً باهظاً للحصول على الوقود والمعادن اللازمة للحياد الكربوني، بينما ستحصل الدول الأخرى بما في ذلك الصين وروسيا والبرازيل وتركيا على عوائد مالية ضخمة تسهم في بناء كيانها الاقتصادي، وتقوية اقتصاداتها، في وقت تضعف فيها الدول الأوروبية التي ستعاني من تضخم كبير، وهروب للاستثمارات.
خلاصة القول إن أوروبا سلمت رقبتها للدول الأخرى، ومن ثم فإن مستقبلها رهينة الوضع السياسي والاقتصادي في الدول الأخرى، والعلاقات الدولية، الأمر الذي سيعزز من قوة الاقتصادات الناشئة على حساب الاقتصادات الأوروبية. اتجاه الدول الخليجية نحو الهيدروجين والطاقة النووية يعني تعاظم دورها المستقبلي عالمياً، في وقت تتقهقر فيه الدول الأوروبية.