بقلم: رياض بوعزة – العرب اللندنية
الشرق اليوم – تأثيرات الأزمة في شرق أوروبا على سلاسل إمدادات الغذاء عالميا تتيح فرصة ثمينة قد لا تتكرر كثيرا لصناع القرار في تونس، من أجل إعادة التفكير بعمق في مدى إلحاح مشكلة إنتاج الحبوب، وضبط إيقاع نشاطه وجعله محور ارتكاز زراعي حقيقي.
هذا القطاع المهم لغذاء التونسيين يثير واقع إنتاجه قلقا في كل مرة تطل فيها أزمة عالمية على السطح، ومخاوف من عجز عن إنتاج ما يكفي من محصول مستدام، وفي الوقت ذاته يطرح معه مشكلة كيفية تقليص التبعية المفرطة للخارج.
تبدو أرقام الإنتاج هذا الموسم مبشرة، خصوصا القمح الصلد، الذي تقدر وزارة الفلاحة أن يبلغ 1.1 مليون طن، أي ما يعادل مستوى الاستهلاك المحلي السنوي تقريبا. المشكلة تبرز في القمح اللين، الذي لا تزيد الكمية المنتجة منه عن 120 ألف طن سنويا، ويحتاج إلى تدخل الدولة لتشجيع المزارعين على تخصيص مساحات أوسع لزراعته تحقيقا للاكتفاء الذاتي.
في ظل نوايا توسيع رقعة الأراضي المزروعة بالقمح، تلتقي التساؤلات حول مدى إمكانية المسؤولين الوصول إلى هدفهم، وبلدهم محاصر بمجموعة من العراقيل خاصة وأن تقارير منظمات ومؤسسة مالية دولية، وأبحاث المراكز المتخصصة تؤكد أن تونس أكثر الدول تعرضا لتغير المناخ في حوض المتوسط.
طيلة عقود، وإلى حدود 2010، ظل البلد قادرا نسبيا على تحقيق اكتفائه الذاتي من الحبوب بفضل إنتاجه المحلي الذي كان في المتوسط يتراوح بين نصف مليون ومليون طن.
لقد ساعدت الدولة في تحقيق ذلك عوامل مختلفة منها التركيز الكامل على الزراعة لاقتناعها أنها ستضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، تتمثل في تحفيز نشاط الصناعات الغذائية وتحريك سوق العمل وتقليص العجز التجاري.
ليس ذلك فقط، بل إن التكاليف اللازمة لعملية الإنتاج كانت معقولة، رغم أن السياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة اعتراها قصور في تحديد رؤية واضحة المعالم لمستقبل القطاع ومسألة الأمن الغذائي. والأهم من ذلك أن مجموع السكان كان أقل من نصف عددهم الحالي مما يعني أن الطلب لم يكن كبيرا.
من المهم هنا لفت الانتباه إلى أن إخراج هذه الزراعة من وضعيتها الراهنة يحتاج إلى عزيمة سياسية، كونها قضية مصيرية لا تقل أهمية عن مجالات أخرى استراتيجية بما أنها تعد جزءا من الأمن القومي للدولة، وبالتالي على السلطات إدراك أنه لم يعد ثمة وقت تضيعه.
عند النظر إلى بيانات المعهد الوطني للإحصاء نلحظ أن الزراعة كانت تسهم خلال تسعينات القرن الماضي بحوالي 17 في المئة من الدخل سنويا، لكنها تراجعت في العشرية الماضية، وتراوحت بين 8 و10 في المئة فقط، مما يجعل البلد أمام تحدي تحويل الأعباء الجاثمة على الاقتصاد إلى فرصة قد تتيح استنساخ تجربة البلد في دول أخرى إن أحسن الساسة استثمارها بحنكة.
على عكس الدول الأكثر ثراء بالمنطقة العربية، كالسعودية والإمارات، لا تمتلك تونس أي احتياطات من الحبوب تدعمها في الأوقات الصعبة. ورغم أنها تعد بلدا منتجا للقمح، فإن المؤشرات على امتداد العقود الماضية تؤكد حالة شبه ركود في معدلات الإنتاج، وهو ما يجعلها تعاني عجزا ما فتئ يزيد قياسا بالطلب المحلي.
إذا ما قارنا حجم إنتاج القمح الصلد الذي يبلغ 90 في المئة من احتياجات تونس السنوية ويمنح الصناعات الغذائية قدرا من الاستقرار، فإنها لا تنتج سوى 30 في المئة من دقيق الخبز (القمح اللين)، وبالنتيجة ظلت تعتمد على الواردات ما جعلها عرضة لتقلبات الأسواق الخارجية سواء من حيث الكميات أو التكاليف التي تضغط على الميزانية.
تونس بلد متوسط في عدد السكان قياسا بدول أخرى، مثل مصر والجزائر والمغرب، كما أن موقعها الجغرافي المناخي مناسب ليكون تجربة مهمة في مجال الاكتفاء الذاتي لدول المنطقة إذا ما تم تشخيص الوضع بدقة. ومن المفيد هنا تفحص ما يجري اليوم وتقدير أثر الزيادات الطارئة على الأسعار في التعامل الحكومي مع هذا الملف الحساس ونظرتها في واقع السوق المحلية.
تشير الدلائل إلى أن تبعات الحرب في أوكرانيا ستكون قاسية على تكلفة المدخلات الزراعية للحبوب، ما قد يؤدي إلى تقلص استخدامها، وتكفي نظرة فاحصة للمسؤولين في تونس لمعرفة حجم الضرر الذي يمكن أن يعانيه قطاع الحبوب والإنتاج الزراعي عموما، خاصة في ظل استمرار موجة الجفاف إن لم تحدث زيادة في إيقاع تنمية القطاع.
في السابق تأقلم المنتجون التونسيون مع ظروف كثيرة مشابهة، كالتي ظهرت عام 2007، والذي سمي بـ”عام الصدمة”، وتمكنوا من تلبية حصة، لم تكن مستقرة غالبا، من احتياجات البلد من القمح بنوعيه، وحقق الطرفان (الدولة ومنتجو الحبوب) منفعة متبادلة. أما الآن فتشير الاحتمالات إلى وضع مختلف، وتؤكد الحقائق على أرض الواقع أن من الصعب أن يستمر الأمر على ما هو عليه إن لم تتغير الاستراتيجيات.
الدليل على ذلك أن المزارعين يفتقدون إلى السيولة اللازمة والأدوات الكافية لإنتاج هذه الحصة أو ربما زيادتها حتى مع تقديم الحكومة لحوافز مشجعة، وإن كانت مؤقتة أحيانا بسبب الظروف المالية الضاغطة، بعدما قررت مؤخرا رفع أسعار شراء محصول هذا الموسم، لأن تبريراتها بجدوى التخطيط لتحسين الإنتاج تصطدم بعقبتين، الأولى قلة المداخيل، والثانية صغر المساحات المزروعة.
قطاع الحبوب يحتاج فعليا إلى أن تتحد جميع الأطراف من حكومة ونقابات (الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري) والمنتجين والجهات الممولة (بنوك) للاتفاق على اعتماد معايير ذات كفاءة عالية تُحدد من خلالها الأولويات ورسم الأهداف المستقبلية لجعله متينا حتى يتجنب صدمات محتملة قد تكون أسوأ وأقسى.
تحقيق “هندسة زراعية” ترتقي بتجربة إنتاج الحبوب محليا، يتطلب الارتقاء بكل الخيارات الممكنة والمتاحة وتجميعها في سلة واحدة تشمل تحسين أصناف البذور بالتوازي مع استدامة الحوافز التمويلية والدعم الحكومي وتطوير عمليات التخزين.