بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – مؤخراً، وبالتحديد في 16 أيار (مايو)، نُشر لي على موقع “النهار العربي” مقالٌ بعنوان: “جدل الموسيقى والسياسة… الحرية أو الطغيان”، تحدثت في بدايته عن الفنون بالعموم على اعتبار أنها “وسيلة من وسائل رقي النفس الإنسانية ونتيجة له في الوقت نفسه”، لأتابع بعد ذلك الكلام عن الموسيقى تحديداً، وما شهدته من تطور على امتداد تاريخ البشرية وانتقالها “من مجرد كونها أداةً لغرض ديني أو سحري، لتصير فنّاً مستقلاً وعلماً له قواعده”، وكيف غدا “للفنون الموسيقية الرائجة في مجتمع ما إحدى وظيفتين: إما القدرة على رفع مستوى وعي ورقيّ النفس البشرية، أو فِعل العكس تماماً، والانحدار بها نحو التفاهة والتسطيح، بخاصة حين يتم حصر إنتاجها من أجل التجارة وتحقيق الربح، أو لخدمة السلطة وتلميع صورة أصحابها”.
لا أستغرب عادة المناقشات أو الجدل الذي يدور مع البعض بسبب مقالاتي، وأتوقع بالعموم طبيعة التعليقات التي سأتلقاها، سواء أكان ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى بشكل مباشر، من الأصدقاء أو من الغرباء على حد سواء. في ما يتعلق بالمقال المذكور أعلاه، لم أتوقع ردات فعل شديدة حوله، فهو وإذ قد يثير استياءً ما لدى بعض السياسيين الذين اعتادوا توظيف الفن لخدمة أهدافهم الشخصية، إلا أنه يعبر عن وجهة نظر عامة ورأي مشترك لدى الجميع، العامة والمهتمين والمختصين، أو هكذا ظننت!
بعد نشر المقال تواصل معي شخص، عرَّف عن نفسه على أنه “ناقدٌ فني”، وقال إني أصلحت خطأً بخطأ أكبر منه عندما ختمت بأن “الفن حين يخدم أهداف السياسة البنّاءة والمشروعة، أو يشير إلى إنجازات حقيقية للحاكم أو السلطة، فإنه يخدم المجتمع والدولة ويساهم في نشر ثقافة العطاء والبناء والاقتداء بسلوك الحكم العادل”. فمشكلة هذا الناقد الفني لا تقف عند توظيف الفن لخدمة أهداف شخصية لبعض الحكام بخاصة المستبدين منهم، بل مشكلته الأكبر هي مع مفهوم “توظيف الفن” الأعم، فقد تبين من حديثه أنه مناصر راديكالي لنظرية “الفنُّ للفن”، حيث يرى بوجوب قطع أي علاقة بين الفن والمجتمع، فالفن برأيه –وبرأي كلِّ أتباع تلك النظرية– لا يحتاج لمبرر ولا يوجد لغرض، سياسياً كان أم تعليمياً أم حضارياً… أو أي غرضٍ آخر.
لست غريباً عن هذه النظرية، فقد قرأت عنها كثيراً في السابق وخاصة بداياتها وشرارة انطلاقها، إذ يُنسب شعارها “الفن للفن” غالباً إلى الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزين، الذي صاغه أوائل القرن التاسع عشر. وتعني هذه الفكرة أنه لا ينبغي الحكم على الفن من خلال علاقته بالقيم الاجتماعية أو السياسية أو الأخلاقية، ولكن لمجرد خصائصه الشكلية والجمالية، وقد شاعت أولاً بين الموسيقيين والشعراء على وجه الخصوص حيث وجدوا أنفسهم مستائين من مطالب سوقٍ ثقافيةٍ يديرها الأثرياء والجهلاء ويخصص كل نتاجها لخدمة رغبات هؤلاء. أوضح تعبير عن هذا الاستياء ما جاء في رواية بلزاك “الأوهام المفقودة” على لسان بطلها الشاعر، حيث قال “الكتب للناشرين كما السلع التي يمكن شراؤها بسعر رخيص وبيعها بسعر غالٍ”، ومن هنا ذهب بعض كتَّاب تلك المرحلة بعيداً بالأمر، فنجد الروائي الفرنسي تيوفيل غوتييه Gautier في مقدمة روايته (الآنسة دي موبان 1835) يكتب: “لا شيء جميلاً حقاً إلا إذا كان عديم الفائدة؛ كل شيء مفيد يكون قبيحاً”.
وعلى خُطى غوتييه في الكتابة سار فاغنر في الموسيقى، فقد كان ريتشارد فاغنر –العبقري الموسيقي المسرحي الألماني– من أكثر الفنانين سخطاً حيث عدَّ “ارتياد البرجوازيين غير المستنيرين المريح للأوبرا سبب كل الشرور”، وصرح برغبته في تحطيم قوة القانون والملكية، ويقال إنه قام خلال ثورات 1848 بإضرام النار في دار الأوبرا الخاصة به في دريسدن.
حكمت على محادثي بأنه من أتباع هذه النظرية لأنه استهل كلامه باستشهاد لأحد روادها وهو الرسام الأميركي جيمس ماكنيل ويسلر، حيث قال لي: “يجب أن يكون الفن مستقلاً عن كل مصيدة التصفيق – يجب أن يقف بمفرده، وأن يجذب الشعور الفني بالعين أو الأذن، دون الخلط بين هذا وبين العواطف الغريبة تماماً عليه، مثل الولاء والشفقة والحب والوطنية وما شابه ذلك”.
لم أرد الغوص في عمق الموضوع لعدة أسباب، أولها أنه بعيد عن اختصاصي، فأنا وإن كنت متابعاً لبعض أنواع الفنون، إلا أني أبعد ما يمكن عن الاختصاص في هذا المجال، وأشاهد وأقيم بعين المهتم، وليس بعين الخبير. أضف إلى ذلك تأكدي بأنني واقع تحت ثقل سنوات وسنوات من العمل في مجال الاقتصاد والسياسة، ما يجعل اقتناعي بإمكانية وجود أو حدوث أو صناعة أي شي بلا هدف ولا غاية أمراً أقرب إلى المستحيل، بل أكاد أكون من أنصار النظرية الوظيفية فلا يمكنني التفكير بأي شيء إلا من ناحية الوظيفة التي يقوم بها ويؤديها في المجتمع. وشرحت له تلك الأسباب، وقلت له أنه بإمكاننا أن نتفق على ألا نتفق، فكلٌّ منا يقارب الموضوع من خلفية مختلفة، لكنه لم يقبل تلك “الهدنة” بل جاوبني بقسوة: “وكيف لكم أنتم الأغنياء أن تفكروا بالفن إلا من هذه الخلفية، فكل شيء عندكم يُقيَّم بما يجنيه من أموال”.
لقد أثار رده هذا استيائي طبعاً، لكني –وللأسف– معتاد على هكذا اتهامات، فالتزمت الهدوء وأجبته بإسهاب هذه المرة وقلت: “أنا لا أطلب من الفن أن يحقق عائداً على الإطلاق، بل على العكس من ذلك تماماً، أرى أن مسؤولياته أكبر من ذلك بكثير، وأظن أن كلامي كان واضحاً في المقال السابق، وما قلته عن الموسيقى ينسحب على كل أنواع الفنون الأخرى، فالفن –برأيي– ابن المجتمع، ومثلما يؤثر الفن في إحساسنا بذاتنا، فهو يؤثر في المجتمع ككل من خلال تغيير الآراء وغرس القيم وترجمة الخبرات عبر المكان والزمان. أضف إلى أن الفنون بالعموم، الرسم والنحت والموسيقى والأدب وغيرها، هي مستودعٌ للذاكرة الجمعية للمجتمع. ولطالما حفظ الفن ما لم تستطع السجلات التاريخية المبنية على الحقائق حفظه، فهو يحفظ مشاعر المجتمع حيال أي موضوع في مكان معين في وقت معين”.
لقد حاول محاوري مقاطعتي عدة مرات، لكنني تابعت واستطردت وقلت: “وتقع على الفن أيضاً وظيفة مرتبطة بالتواصل من ناحية أنه يسمح للأشخاص من ثقافات مختلفة وأزمنة مختلفة بالتواصل مع بعضهم البعض عبر الصور والأصوات والقصص. وتقع على عاتقه –وأهله– وظيفة نقد الظواهر الاجتماعية ومعالجتها ما أمكن، فله أيضاً أدواته في إحداث التغييرات المجتمعية، والانتقال بالشعوب نحو الأفضل، إذ غالباً ما يكون الفن وسيلة للتغيير الاجتماعي، فهو قادر على أن يمنح صوتاً للمحرومين سياسياً أو اجتماعياً… وكم من أغنية أو فيلم أو رواية أثارت المشاعر لدى أولئك الذين عاينوها وألهمت أفراداً وحشوداً ودفعتهم نحو التغيير”.
وهنا ردَّ قائلاً: “أنت تُحمِّلُ الفن ما لا طاقة له فيه أولاً، وثانياً يجب أن تدرك أن صناعة الفن بهدف التغيير تأتي على شكل اصطناع وليس مبادرة، وهذا يسقط عن الفن صفة العفوية والخروج من دائرة اللاوعي والتعبير عن ذات الفنان، نحو اصطناع فن لا يحمل اللمسة السحرية لـ “اللاوعي”، ويفقد بالتالي سمة الفرادة الذاتية”. عندما تكلم محاوري بهذه الطريقة، شعرت أنه عاد ليرتدي قبعة المنطق في حديثه، فأجبته بدوري: “إذا كنت ترى أني أحمل الفن ما لا طاقة له فيه، فأنا أرى أنك بالمقابل تستخف بما يستطيع الفن أن يفعله، بخاصة عندما يتخطى الفنان ذاته للتعبير عن الجماعات الأكبر، وقد تكررت أحداث كهذه كثيراً ومنذ القديم، ألم تطلع من قبل على حادثة استقبال سعد زغلول بعد عودته إلى مصر من منفاه، ألم تسمع النشيد الذي صنعه سيد درويش؟ هل تسقط عن تلك الأغنية صفة الفن والإبداع لأنها تتجاوز ذات صاحبها لتعبر عن ذوات ملايين المصريين؟ لقد تحول ذاك النشيد –بلادي بلادي– إلى السلام الوطني لمصر، وما زال رمزاً وطنياً لنحو مئة مليون إنسان، أليس هذا فناً”.
لم يجبني بعد ذلك محاوري، وأعجب لذلك، فالنظرية التي يدعي بأنه أحد “أصولييها” يمكن أن يجري الدفاع عنها بأسلوب أفضل وبحجج أكثر قوة وصلابة، وبصراحة كنت أخشى أن يفحمني مباشرة وبعد وقت قليل من النقاش، على اعتبار أنه ناقد، بخاصة وأني لا أملك في ترسانتي إلا انبهاراً شديداً بالفن، وثقة كبيرة بقدرته، وإيماناً عميقاً بأن الانخراط في الفن ليس مجرد حدث منفرد، فالمجالات الفنية اليوم باتت من الفضاءات القليلة في مجتمعنا حيث يمكن للناس أن يجتمعوا لمشاركة تجربة، مهما اختلفت الطرق التي يرون بها العالم. في الفنون ومختلف أشكال التعبير الثقافي، يتم قبول الخلاف واحتضانه كعنصر أساسي، وبهذا المعنى يستحيل المجتمع الذي أنشأته الفنون والثقافة إلى مصدر إلهام كبير للسياسيين الوطنيين والقادة الأكفاء وللناشطين الذين يعملون كي تتجاوز مجتمعاتهم –والكوكب كله– المشكلات والاستقطابات والاصطفافات المفرِّقة.
أنا مقتنع أنه يمكن لعمل فني أن يجعلنا أكثر انفتاحاً على الآخر المختلف وعلى أنفسنا. يمكن أن يساعدنا اللقاء مع الفن –ومع الآخرين على الفن– في التعرف وكسر الصور النمطية وتوسيع مداركنا… لذلك آمل أن يستمر الفن اليوم، وفي المستقبل، بالانخراط في كل القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والحقوقية والبيئية كما يفعل اليوم وأكثر، بل ولا مانع من إشراك الفنانين على جميع المستويات، من المستوى المحلي إلى المستوى العالمي، في البحث عن حلول للتحديات التي تواجهنا في العالم اليوم، فربما ينجح منظورهم الإبداعي في المكان الذي فشلت فيه الكثير من المقاربات السياسية التقليدية.
وفي النهاية لا بد لي من القول إن لا مشكلة لدي في كل من يصنع الفن من أجل الفن فقط، ولا أرى في ذلك أي خطأ، لكني في المقابل غير مقتنع بأن “الفن للفن” هو الفلسفة التي يجب أن تسود في عالم الفنون، وإلا فإننا كجمهور وكشعوب لن ندرك إلا النذر اليسير مما يمكن للفن القيام به.
من خلال التمسك بشعار “الفن للفن”، يظل عالم الفن منعزلاً ومنغلقاً بدل أن يزود الفنانون والمبدعون مجتمعاتهم بالفرح والتفاعل والإلهام، وأن يقدموا أيضاً نقداً مدروساً للقائم من الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالجمال والقيمة والغاية ليست مفاهيم متعارضة، بل متكاملة ومتناغمة ويمكن أن يشكل ائتلافها دافعاً مهماً نحو التطور الحضاري المنشود.