بقلم: محمد أبوالفضل – العرب اللندنية
الشرق اليوم – جذبت تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية المزيد من الأنظار إلى منطقة شرق البحر المتوسط ومخزونها الاستراتيجي من الغاز بعد وجود شكوك كبيرة في استمرار تدفق الغاز من روسيا إلى أوروبا بالوتيرة نفسها.
بدأت بعض الدول تفكر في قياس مدى الاعتماد على هذه المنطقة مستقبلا، وهي التي شهدت السنوات الماضية حركة سريعة لتطوير أطر التعاون بين مصر واليونان وقبرص، وأضيفت إليها دول قريبة وأخرى بعيدة جغرافيا.
اعتمدت رؤية هذه الدول كوسيلة للتعاون على احتدام الخلاف مع تركيا التي أرادت فرض سيطرتها على غاز شرق المتوسط، وتطورت العلاقات بين الدول المعنية بشرق المتوسط على قاعدة أن أنقرة مصدر تهديد خطير على مصالحهم، وهي القاعدة التي جذبت إلى هذه الدول أيضا دولة مثل السعودية، لا يقل تباينها مع تركيا عنهم.
تحركت الرياض بالتوازي مع القاهرة لجهة إدارة الخلاف مع تركيا وتعزيز التعاون مع كل من اليونان وقبرص كدولتين تقعان بقلب الصراع في شرق المتوسط، وجرى توقيع اتفاقيات اقتصادية وأمنية وتحالفات عسكرية، في غالبيتها كانت جزءا من إدارة المعركة مع أنقرة.
تغيرت الصورة السياسية مع حدوث تحولات في التوجهات التركية نحو هذه الدول ضمن روزنامة من الحسابات الإقليمية فرضت إعادة النظر في تصرفاتها السابقة، وعادت الحرارة في شرايين العلاقات التركية مع الرياض، وتراجعت الخلافات وتكاد تتلاشى مع القاهرة، وهدأت هواجس أثينا ونيقوسيا.
خلقت هذه النتيجة انطباعات بأن تصورات أنقرة اليوم لن تكون هي نفسها التي سادت بالأمس، ما يعني أن ثمة مرحلة مقبلة من إعادة تقييم العلاقات معها، أو بمعنى أدق قد تطرأ تغيرات على السياسة العدائية التي سادت وجمعت بين الدول الأربع.
وانطلق جزء مهم من التوافق العام بين مصر واليونان وقبرص والسعودية من التهديدات التركية في شرق المتوسط، والرغبة في ممارسة ضغوط لتحجيم ممارساتها والتأكيد على امتلاك أدوات قادرة على تكبيدها خسائر باهظة، ما أجبر أنقرة على التخلي عن سيناريو التوسع والهيمنة وفرض النفوذ بالقوة، ومحاولة تحسين العلاقات مع مصر والسعودية تحديدا، ومنع وصولها إلى حافة الهاوية مع اليونان وقبرص.
تشير هذه المعطيات إلى عدم استبعاد تغير خارطة الصراع في شرق المتوسط، خاصة أن بعض التحالفات الجديدة فرضتها المخاوف من طموحات تركيا المبالغ فيها.
مع التغير في إدارة أنقرة لعلاقاتها مع دول عديدة بالمنطقة، بينها الدول الأربع المشار إليها قد تتغير طريقة إدارة الروابط التي نشأت مؤخرا بما يؤثر على التفاعلات بينها، على الرغم من تأكيدات مصر مثلا على أن التقارب السياسي مع تركيا لن تكون له انعكاسات سلبية على علاقاتها المتطورة مع كل من اليونان وقبرص.
تكمن المشكلة في أن السعودية أدواتها واضحة وتعتمد على المال، بينما أدوات مصر تعتمد على الفكرة المعنوية للدور التاريخي، والذي دخلت عليه تغيرات جعلته لا يحتل المرتبة ذاتها في السياسة الخارجية للقاهرة، فضلا عمّا حدث من تحولات في المنظومة الراهنة للدور الإقليمي، والذي يشغل دولا أخرى بدأت تعمل على توظيف ما تمتلكه من إمكانيات مادية لتدعيمه، وهو ما تقوم به السعودية في شرق المتوسط.
ذهبت بعض التقديرات إلى أن القاهرة ربما تخسر ما كسبته من نفوذ في هذه المنطقة إذا تمكنت أنقرة من تصحيح علاقاتها مع الدول التي دخلت معها في توترات، وظهرت تجليات ذلك مع السعودية والإمارات وإسرائيل، ومصر نفسها.
من غير المستبعد أن تقوم تركيا باستدارة إيجابية نحو اليونان وقبرص لتبريد الخلافات معهما، لأن الحل يحتاج إلى إرادة سياسية كبيرة غائبة حتى الآن.
من هنا يأتي سؤال: هل تملك مصر أدوات تمكنها من الحفاظ على توازنات في إدارة علاقاتها في شرق المتوسط دون حدوث هزة تضطرها لإدخال تركيا في المعادلة؟
تبدو التحركات التركية التي تبشر بتصفير الأزمات الإقليمية ليست محل ثقة من قبل القاهرة، وهناك مخاوف من أن تكون الليونة التي تتبناها أنقرة تنطوي على انحناءة مؤقتة.
بافتراض أنها تعبر عن توجه استراتيجي وليس تكتيكيا ترمي من خلاله تحقيق أهداف عاجلة، فالعلاقة مع اليونان وتركيا تنطلق من أسس تفرض على مصر التمسك بها.
تمثل الدولتان للقاهرة رصيدا مهما على الساحة الأوروبية، ويقوم منتدى غاز شرق المتوسط على التحالف معهما، ومهما حدث من تحسن في العلاقات مع أنقرة لن يأتي على حساب أثينا أو نيقوسيا، لأن مشروعات الغاز شائكة وممتدة وطموحة وتتطلب صبرا وتمهلا كي تتضح المعالم التي يمكن أن تكسوها في المستقبل.
كما أن البراغماتية المصرية في إدارة العلاقات على المستويين الإقليمي والدولي تفرض درجة عالية من ضبط التوازن الذي يقلل من أوجه الخلل المتوقع بسبب الحالة التركية، وقد أجادت القاهرة إدارة التناقضات في حالات دولية أشد وعورة، فلم تبتعد مصر عن روسيا لصالح الولايات المتحدة أو العكس عقب اندلاع الأزمة الأوكرانية.
توفر الطريقة التي تدار بها العلاقات بين الدول مساحة مناورة لمصر أو غيرها لتفعيل الأدوات السياسية التي تعصمها من الوصول إلى الاختيار بين تركيا وبين اليونان وقبرص، لاسيما أن ميراث الحساسيات طويل مع الأولى، وإن هدأت العواصف الآن فلا يوجد دليل موثوق به على عدم هبوبها بقسوة لاحقا.
يساعد وجود مصر كجزء من عروض الطاقة في المنطقة على تجنب الدخول في صدامات مع تركيا أو غيرها، وتفرض تطلعاتها، لتصبح حلقة مهمة في مشروعات النقل من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، تخفيض الصراعات، فأحد أهم المزايا التي تمكنها من تحقيق هذا المشروع ألا تكون منخرطة في توترات عميقة.
تقوم مصر حاليا بتشييد شبكة للسكك الحديدية لنقل البضائع والطاقة من مدنها في الشمال الغربي على البحر المتوسط إلى أخرى على البحر الأحمر، ومنهما إلى جنوب البلاد تمهيدا إلى مد المشروع للسودان ومنه إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا، وتشارك فيه شركات عالمية.
بعد التراجع التركي عن السياسة الصدامية يمكن أن يسود هدوء في شرق المتوسط، غير أن عوامل التوتر قد تأتي من رحم التوسعات المنتظرة في عمليات استخراج الغاز وتصديره، فهناك مشروعات واعدة لا أحد يضمن مرورها بلا توترات.
لذلك فالحل المتاح أمام مصر المحافظة إلى أبعد مدى على دورها في منتدى شرق المتوسط كأداة تمكنها من تنظيم التعاون والتنسيق مع الشركاء الحاليين والمحتملين.