الرئيسية / مقالات رأي / الباب بين روسيا وأمريكا مُوصد بشدة

الباب بين روسيا وأمريكا مُوصد بشدة

بقلم: أناستازيا إيديل – صحيفة الشرق الأوسط

الشرق اليوم- الحرب في أوكرانيا كارثة لا تنتهي. فالقوات الروسية، التي تتركّز في الشرق، لا تزال تُلحق ضرراً رهيباً بالجنود والمدنيين الأوكرانيين على حد سواء. لقد فُقدت أرواح لا تحصى وقُلبت الأوضاع رأساً على عقب. ومرة أخرى، يتعيّن على العالم مواجهة احتمالات اندلاع حرب نووية، وأن يكافح ضد أزمة اللاجئين وتكلفة المعيشة المتفاقمة. ليست هذه “نهاية التاريخ” التي كنا نأمل فيها.

هناك تحول آخر يجري وإن كان بقدر أقل من العنف: بعد 3 عقود من التبادل والتفاعل والمشاركة، أغلق الباب بين روسيا وأمريكا. وفي كل يوم تقريباً تنسحب من روسيا شركة أميركية أخرى، بما في ذلك “ماكدونالدز” الشركة الأكثر رمزية بين كل الشركات، التي بشرت أقواسها الذهبية بحقبة جديدة قبل 30 عاماً. فقد طُرد الدبلوماسيون، وأُلغيت الحفلات الموسيقية، وسُحبت المنتجات، وأُوقفت الزيارات الشخصية. ولا يُصدر أحد تأشيرات الدخول في القنصليات المغلقة، وحتى إن كانت كذلك، فإن المجال الجوي الأميركي مُغلق الآن أمام الطائرات الروسية. ويبدو أن التفاعل الموضوعي الوحيد المتبقي هو إصدار العقوبات والعقوبات المضادة.

بالنسبة لمواطنة روسية أميركية مثلي، ممن تشكلت حياتهم في خضم الروابط بين الثقافتين، فإنه تحول مُحير ومُؤلم للأحداث. إن التدابير الرامية إلى الحد من قدرة الكرملين تشكل ضرورة سياسية وأخلاقية واضحة. لكن الأضرار الجانبية تتمثل في قطع العلاقات الذي من المحتم أن يؤدي إلى إحياء القوالب النمطية الضارة وإغلاق مساحة التواصل عبر الثقافات. وعلى نحو أكثر عمقاً، يشير الانفصال الراهن للسبل إلى النهاية الحاسمة للفترة التي بدا فيها تكامل روسيا مع الغرب ممكناً، حتى وإن كان مزعجاً، وكانت العداوة بين القوى الآيديولوجية العظمى من مخلفات الماضي.

هذا بالتأكيد ما شعرت به في يوم من مارس (آذار) الدافئ عام 1989 في “كراسنودار”، البلدة الجنوبية الإقليمية قرب البحر الأسود حيث نشأت. كانت مدرستي تستضيف مجموعة من طلاب السنة النهائية بإحدى المدارس الثانوية في نيوهامبشاير: كنت على وشك أن أبلغ 17 من عمري، وحتى ذلك اليوم كانت أميركا موجودة كمفهوم مجرد في ذهني فقط. كان المقصد الخبيث لبرنامج عطلة رأس السنة، كما قيل لنا، وهدف مساعي نيكيتا خروتشوف إلى “اللحاق بأمريكا وتجاوزها”، وموطن برنامج “حرب النجوم”، واحدة من المخططات العديدة التي صاغها الإمبرياليون لإطاحة الاتحاد السوفياتي.

لكن أولئك الشبان والبنات الذين يرتدون سراويل الجينز والكنزات الرياضية، ممن ظهروا في ساحة مدرستنا لا يبدون كالإمبرياليين، أو يبدو أنهم يشكلون أي تهديد على الإطلاق. لقد بدوا في صورة مماثلة لنا بملابس أفضل قليلاً فحسب: كانوا خجولين، وحَسَنِي النية، ومأخوذين بما يشاهدون. قبل ساعات قليلة فقط، خلال فصل التدريب العسكري، كنا نجمع بنادق الكلاشينكوف لاستخدامها ضد عملاء العدو. وها هم يقفون أمامنا، نحدق في بعضنا بعضاً. ثم ابتسم أحدهم، ورحب بنا الآخر. وفي غضون دقائق تلاشى الحذر بيننا. وقال لي شاب طويل القامة ذو قرط فضي: “إنني أقرأ رواية (الجريمة والعقاب) أثناء عطلة الربيع. إن شخصية روديون راسكولينكوف رائعة للغاية!”.

خلال الأيام الخمسة التالية من الاكتشاف المتبادل، علمنا أن الأميركيين كانوا يخافون أيضاً من الحرب النووية التي ربما نشنها عليها وفق نسختهم المعروفة من الرواية نفسها. ذلك أنه عند نقل كلمات أغنية “آيس آيس بيبي” للغة الروسية لم يكن لها معنى مفهوم. وكلمة “قدر أو الوعاء” لها معنى مغاير غير أداة من أدوات المطبخ، كما أوضح الشاب المعجب بشخصية “راسكولينكوف”. وأنه عندما يقول صبي لفتاة أنها “مميزة”، فهذا أمر حسن للغاية. ثم تجولنا سوياً في الشوارع، والتقطنا الصور بجانب تماثيل لينين – أو بالأحرى، كما قال الأميركيون، كنا نتسكع سوياً. وقبل الوداع المفعم بالبكاء الحار، تبادلنا العناوين وتعاهدنا بالصداقة مدى الحياة.

احتفظت بدفتر أخضر مملوء بأسماء البلدات الأميركية، جنباً إلى جنب مع رسالة غرامية، وقرنفلة جافة، وعدد من الصور السوداء والبيضاء، ورموز فلكية من عام 1989: تفكك جدار برلين، وسقوط الستار الحديدي، وتلاشي تيمات “نحن” و”الآخر” المريعة في الهواء الطلق أخيراً. وترديد أغنية “وداعاً أميركا التي لم أزرها أبداً”، ذلك النشيد الشعبي الذي كنا نودع فيه أميركا العدو، أميركا الخرافة – ونتوقع اكتشاف الأمر الحقيقي. ولم تعد كلمات مثل “الحدود” و”الآيديولوجية” ذات صلة بأي شيء منطقي. وبدا الأمر وكأن أميركا وروسيا تتوحدان بفعل الرغبة المتقدة والمشتركة إلى السلام.

ولّدت السنوات التي تلت ذلك إرادة طيبة وهائلة بين دولتينا. وكمواطنة روسية في أميركا، قابلت عدداً لا يحصى من الناس الذين شاهدوا طبيباً من كاليفورنيا ساعد في إنشاء مراكز لجراحة القلب للأطفال في مختلف أنحاء روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي؛ وقبطاناً من سياتل أقام مشاريع بحرية مشتركة مع الصيادين في أقصى شرق روسيا. وفي الأثناء ذاتها، تدفق خريجو الجامعات الروسية إلى أميركا، ووهبوا أدمغتهم ومواهبهم لكل شيء من أفلام هوليوود إلى تسلسل الحمض النووي. كان هناك الكثير من الزيجات. كما كانت هناك فرقة شعبية روسية من النساء قد استولت على الأجواء في التسعينات عندما استحدثن آلة البلاليكا الروسية الكهربائية، وعزفن عليها أغنية “أميركان بوي” الذي جاء ليأخذهن بعيداً.

صودف أن ذلك كان طريقي. وبعد أن تزوجت من عائلة من المنشقين السابقين الذين آوتهم الولايات المتحدة، كنت بنفسي شاهدة على توافد الناس والأفكار. وتدفق الأموال كذلك. فأول وظيفة بأجر حصلت عليها في أميركا عام 1998، على سبيل المثال، كانت ترجمة محاضر “ندوة الاستثمار الأميركية الروسية” السنوية الثانية، التي استضافتها جامعة هارفارد، وضمت مجموعة من كبار المصرفيين الدوليين الذين يتنافسون على جذب اهتمام الضيوف الروس، ومن بينهم رجل الأعمال الثري بوريس بيريزوفسكي، وعمدة موسكو في ذلك الوقت يوري لوغكوف.

لكن في مكان ما على طول الطريق سوف يتباطأ الخير. فبعد الإعراب عن الحماس للسيد بوريس يلتسين، أول رئيس روسي لما بعد الاتحاد السوفياتي، وجد زعماء أميركا خليفته فلاديمير بوتين – من أبناء جهاز الاستخبارات السوفياتي النجباء – غير مناسب لأذواقهم. فقد أوضح السيد بوتين أنَّه لا يعبأ بالأمر. فقد بدأت “الهيمنة الأميركية”، العبارة التي أتذكرها من طفولتي السوفياتية، في الظهور في وسائل الإعلام الروسية الموالية للكرملين. وفي الغرب، لم يعد يُنظر إلى الروس باعتبارهم رهائن محررين من نظام ديكتاتوري شمولي، أو أشرار مُعاد تأهيلهم من أفلام جيمس بوند القديمة، أو مبعوثين لثقافة تولستوي ودوستويفسكي العظيمة، وإنما باعتبارهم مشترين بالسيولة النقدية للعقارات الفاخرة في مانهاتن وميامي. فقد تلاشت البهجة بين البلدين ومواطنيها، وبقيت المصالح المشتركة والروابط الاجتماعية قائمة.

كان ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014 نقطة تحول. صحيح أنَّ السيد بوتين كان قد أعرب عن صريح عدوانه في جورجيا، وفي الشيشان على نحو فادح، لكن ادعاءه السيطرة على الأراضي الأوكرانية هو الذي دق ناقوس الخطر لدى الغرب. ووجهت العقوبات التالية ضربات شديدة القسوة ضد الاقتصاد الروسي. كما زودت الكرملين بوسائل وافرة لإذكاء المشاعر المعادية لأميركا. وكان إلقاء اللوم على أميركا في المتاعب التي تواجهها البلاد بمثابة السرد المألوف المتخم بالحنين الجارف بالنسبة للروس، الذين ولد أكثر من نصفهم إبان الاتحاد السوفياتي. وتكرر في كل مكان عزف النغمات البسيطة المعهودة من “توسع حلف الأطلسي”، و”العدوان الغربي”، و”العدو عند الأبواب”، دافعاً الروس إلى الاعتقاد بأن أميركا كانت تهدف إلى تدمير وطنهم الأم. وأتت الدعاية ثمارها: بحلول عام 2018، اتخذت أميركا مرة أخرى مركز العدو الأول لروسيا، وجاءت أوكرانيا في المرتبة الثانية تباعاً.

في أميركا، لم تكن الأمور بالسوء نفسه. بيد أن وصول دونالد ترمب إلى الساحة السياسية العالمية أدى إلى تعقيد العلاقات الروسية الأميركية المتوترة بالفعل. فقد أبدى ترمب تعاطفه مع بوتين علناً، ما عزز المشاعر المعادية لروسيا التي كانت تتصاعد منذ تدخل الكرملين في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، ونادراً ما فرّقت الجماهير بين السيد بوتين والبلد الذي يحكمه. وبدأت العلاقات الاقتصادية والثقافية انحسارها مع صعوبة تأمين التأشيرات والتمويل. ومع ذلك، حدث تبادل للآراء بين الطلاب، وعرض الأفلام، ودفع تكاليف الزيارات العائلية، وإن كان ذلك على فترات أطول.

وجاءت الصواريخ الروسية التي ضربت المدن الأوكرانية يوم 24 فبراير (شباط) لتعصف بهذا الضوء الخافت. إذ باتت أميركا الآن توفر الأسلحة بمليارات الدولارات لاستخدامها ضد روسيا، في حين يتمثل هدف روسيا المعلن في وضع حد للهيمنة الأميركية العالمية “غير المقيدة”. فالدولتان، اللتان كانتا ذات يوم حليفتين في الحرب ضد ألمانيا النازية، تخوضان الآن وفعلياً حرباً بالوكالة. وبينما أشاهد مقاطع مصورة لأبوين روسيين يحضان أبنائهما على تدمير هواتف الآيفون، أو أقرأ عن تهديدات موجهة إلى مخبز محترم في سياتل معروف ببضائعه المخبوزة على الطريقة الروسية، فإنني أشعر بالحزن الشديد قبل كل شيء. لقد ذهب حلم ما بعد الحكم الاستبدادي بمستقبل سلمي ودود أدراج الرياح.

وبعيداً عن نشر الفظائع المادية، فإنَّ حرب السيد بوتين في أوكرانيا تمحو عدداً لا يُحصى من الأشياء غير الملموسة، من بينها الإرادة الجماعية الطيبة التي يمنحها الغرب لروسيا. في مستقبل أطفالي، لا أرى معجزات ثقافية مماثلة لتلك التي عشتها في عام 1989. إنها خسارة فادحة لكلا البلدين، وستكون خسارة أكبر لروسيا، إذا استمر السيد بوتين في مضاعفة المذابح والعزلة الدولية. إن ذلك المستقبل ليس منقوشاً على الحجر، وهو عُرضة للتبدل. لقد أثبتت سنوات البيرسترويكا، حين شرع الاتحاد السوفياتي في تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة باسم الانفتاح، أن روسيا قادرة على التغيير.

لكن في الوقت الراهن، يعصف كل انفجار يقع في أوكرانيا أيضاً بما كان جيداً ذات يوم في العلاقة بين أميركا وروسيا. وفي أرض السيد بوتين، صارت أغنية “وداعاً أميركا التي لم أزرها أبداً” – التي كانت ذات يوم أغنية ساحرة مفعمة بالأمل – بمثابة نبوءة الآفاق القاتمة التي تتحقق ذاتياً.

شاهد أيضاً

حكومة نتنياهو..تأزم داخلي وتجاذب خارجي

العربية- طارق فهمي الشرق اليوم– تواجه الحكومة الإسرائيلية أزمة جديدة متعلقة بتسريب معلومات أمنية تورط …