بقلم: جيمس زغبي – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – الأسبوع الماضي، ألقت «ماري لو ماكدونالد»، رئيسة الحزب «الجمهوري الاشتراكي» الأيرلندي، وزعيمة المعارضة في البرلمان الأيرلندي، كلمة أمام مؤتمر للاتحاد الأوروبي. وحين سُئلت عن الكيفية التي ستوجه بها السياسة الخارجية الأيرلندية، جاءت تصريحاتها مفحمة وبناءة. وبدأت بالإشارة إلى «التجربة الأيرلندية في الاستعمار والتقسيم والصراع.
لقد انطلقنا من هذا. ولذا يجب أن تكون السياسة الخارجية الأيرلندية مخلصة لهذا التقليد ليس بطريقة سلبية، لكن بطريقة نشطة للغاية. سنكون حازمين للغاية في القضايا المتعلقة بتقرير المصير، ولا سيما قضية فلسطين. ولدينا اعتقاد راسخ أننا بحاجة إلى شجاعة دولية وقيادة في هذا الشأن. فإسرائيل عاكفة على مصادرة الأراضي وعلى التمييز ضد المواطنين الفلسطينيين وقمعهم يومياً. أعتقد أنه يتعين على أوروبا التحلي بالنزاهة في كل هذا وممارسة أقصى قدر من الضغط الدولي لحسم هذا الصراع والتوصل إلى حل قيام الدولتين». ما كان يحظى بتقدير كبير منذ فترة طويلة لدى الإيرلنديين، هو تأصلهم في تاريخهم وتعلمهم دروساً إيجابية منه.
ومن المهم فيما يقال عن ماضي ومستقبل أيرلندا أن ننظر إلى انتصارات حزب «شين فين» في كل من جمهورية أيرلندا حيث ينقصه الآن مقعد واحد فقط ليصبح أكبر حزب في البرلمان، وفي الشمال حيث يمثل أكبر حزب. واعترفت ماكدونالد أن أيرلندا عانت طويلاً من الحكم الاستعماري، حيث استغل البريطانيون موارد أيرلندا وعاملوا سكانها الأصليين الكاثوليك بازدراء عنصري.
ولتسهيل حكمهم، أرسل البريطانيون آلاف المواطنين لاستعمار الجزيرة وأنشأوا الكنيسة البروتستانتية ليكون لها وضع متميز في تجل آخر لهيمنة بريطانيا. ومن أبرز المشاق الكثيرة التي عانى منها الكاثوليك الأيرلنديون هي المجاعات سيئة السمعة من منتصف إلى أواخر القرن التاسع عشر. فخلال هذه الفترة، مات أكثر من مليون إيرلندي بسبب الجوع أو المرض، وأُجبر أكثر من مليوني شخص على الفرار من البلاد.
والمجاعات كانت جريمة فرضتها بريطانيا على الشعب الأيرلندي. فعلى الرغم مما تنتجه الجزيرة من كميات كبيرة من الطعام، مُنع الأيرلنديون من الاعتماد في الغذاء على حبوبهم أو ماشيتهم، ومن صيد الأسماك والقنص في أراضيهم، لأن كل شيء مخصص للتصدير إلى بريطانيا. وعلى الرغم من التمرد، لم ينجح الأيرلنديون إلا في عشرينيات القرن الماضي في التخلص من الحكم البريطاني وتأسيس جمهورية أيرلندا في جميع المقاطعات، باستثناء المقاطعات الشمالية الست المكتظة بمستوطنين بروتستانت والتي ظلت تحت السيطرة البريطانية.
صحيح أن جمهورية أيرلندا أقامت دولة بدعم قوي من الجاليات الأيرلندية المغتربة في الخارج، لكن الصراع استمر في الشمال بين الأغلبية البروتستانتية والأقلية الكاثوليكية المشاكسة. وانتهت الحرب الأهلية الدموية باتفاق ينص على ترتيب لتقاسم السلطة، وفتح الحدود بين الشمال والجنوب، وتضمن الاتفاق اشتراط موافقة أغلبيات في الجمهورية وفي الشمال، في المستقبل، على إجراء استفتاء على الوحدة الأيرلندية.
وبعد الاتفاق، نبذ سكان الجمهورية المرارة جانباً وركزوا على بناء مستقبل مزدهر. وأصبحت الجزيرة وحدة اقتصادية بالمعني العملي. وسافر الناس بحرية. وتحركت التجارة والاستثمار في كلا الاتجاهين. واستفاد الشمال من ازدهار الجنوب وقامت روابط. واستمرت العداوات الأيديولوجية والسياسية متمثلة في المواجهة بين الوحدويين البروتستانت الذين يرغبون في البقاء جزءاً من المملكة المتحدة وبين الجمهوريين الأيرلنديين الساعين لتوحيد الجزيرة سياسياً.
ثم جاء بوريس جونسون وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، فبقيت الحدود مفتوحة لكن فُرضت قيود محرجة على التجارة لم ترض أحداً. وهذا مهد الطريق لانتصارات شين فين في الشمال والجمهورية. ولا أحد يعتقد أن المضي قدماً سيكون سهلاً. وسيحاول البروتستانت في الشمال عرقلة جهود «شين فين» الساعية للحكم. ويجب ألا يتخيل أحد أن الوحدة الأيرلندية قريبة المنال، فعلى الرغم من المخاوف الاقتصادية المشتركة، ما زال «خوف البروتستانت من الآخر» قوياً. لكنه تم تجاوز مرحلة ما ويبصر الأيرلنديون طريقاً يمضي للأمام.
والدرس المستفاد من هذه التجربة الأيرلندية هو أن أيرلندا الصغيرة التي كانت مستعمرة ومضطهدة ذات يوم، تستطيع تقدم المسيرة، وتتحدى أوروبا كي تطور سياسة خارجية قائمة على القيم. وهذا يجب أن يكون مصدر إلهام للشعوب المناضلة والمضطهدة في كل مكان.