بقلم: صدقة بن يحيى فاضــل – صحيفة “عكاظ”
الشرق اليوم – كما هو معروف، أنشئ حلف شمال الأطلسي عام 1949، للدفاع عن الغرب المتنفذ وتوابعه، ضد ما يعتقدون أنه يهددهم من أخطار، وفى مقدمتها الخطر الشيوعي، الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي السابق (روسيا حاليا). وقام هذا الحلف العسكري أساسا، أثناء صراع الدولتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي). كان تأسيسه سببا، ونتيجة، للحرب الباردة التي اندلعت بين هذين الطرفين. وكرد فعل على قيام حلف «ناتو»، أنشأ الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه حلف وارسو، سنة 1955. وأصبح هناك معسكران متنافران متضادان (القطبية الثنائية)، يسيطران على العالم، المعسكر الغربي (ناتو) بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي (حلف وارسو) بزعامة الاتحاد السوفييتي. ومعروف، أن ميثاق الأمم المتحدة يحرم الحرب الهجومية، ويسمح فقط بإقامة التكتلات التعاونية الإقليمية.
وقد كانت روسيا، وما زالت، هي الهاجس الأمني – السياسي الأكبر لمعظم أعضاء هذا الحلف، رغم كونها – بالدرجة الأولى – دولة أوروبية كبرى، إلا أن هناك عداء أوروبيا تاريخيا تقليديا لها. فعلى مدار التاريخ الحديث والمعاصر، كانت هناك صراعات وحروب بين روسيا والدول الأوروبية الكبرى. وكذلك اجتياحات عسكرية روسية لبعض بلدان أوروبا المجاورة لروسيا. كما أن كون غالبية الروس تعتنق المذهب المسيحي الأرثوذكسي جعل لروسيا تقاليد وحضارة مختلفة عن غالبية دول أوروبا وغالبيتها البروتستانتية. وساهم قيام «الشيوعية» فيها، في الفترة 1917 – 1991، وهيمنتها على أوروبا الشرقية، في جعل روسيا في خصام مع «الديمقراطيات» الغربية، ورثته روسيا، رغم تخليها عن التوجه الشيوعي الماركسي، وتحولها لدولة وطنية ليبرالية.
وبعد زوال الاتحاد السوفييتي، حذرت روسيا من توسع حلف «ناتو» شرقا تجاه حدودها الغربية، فوعد الحلف – أثناء مفاوضات توحيد ألمانيا – بعدم التوسع شرقا، «ولا بوصة واحدة». ولكنه نكث بهذا الوعد، واستغل ضعف روسيا، في المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، فتوسع شرقا لآلاف الكيلومترات.
أعضاؤه المؤسسون: بلجيكا، أمريكا، فرنسا، الدنمارك، كندا، آيسلندا، إيطاليا، لوكسمبرج، هولندا، النرويج، البرتغال، بريطانيا. ثم انضمت إليه فيما بعد اليونان، تركيا، ألمانيا الغربية (ألمانيا)، إسبانيا. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، التحقت به 14 دولة، 10 منها كانت أعضاء في حلف وارسو، وهي: تشيك، المجر، بولندا، بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا. إضافة إلى: ألبانيا، كرواتيا، الجبل الأسود، شمال مقدونيا. أي أن عدد أعضائه الآن وصل إلى 30 دولة، ثلثها كانت أعضاء في حلف وارسو، وبعضهم يقع متاخما لروسيا (استونيا، لاتفيا، ليتوانيا). وبذل الحلف جهودا حثيثة لضم أوكرانيا للحلف، وهي الدولة الأقرب لروسيا، التي سارعت بإجهاض هذه المحاولات، خاصة بعد أن قوى عود موسكو، وتجاوزت عقبات المرحلة الانتقالية.
وها هو الحلف يعاود التمدد شرقا، رغم معارضة روسيا، وغيرها، وخاصة خصوم أمريكا والغرب، الذين يرفضون توسع حلف ناتو، شرقا أو غربا. ومن ذلك: الصين التي أصبحت دولة عظمى، ذات حضارة مختلفة، منافسة جدا للغرب، وفي كل المجالات.
وبعد حوالى 75 عاما من الحياد، وعدم الانحياز العسكري، تقدمت كل من فنلندا والسويد رسميا، يوم 18 مايو 2022، للانضمام لحلف ناتو، في مقر الحلف ببروكسل، لتبدأ بذلك إجراءات قبولهما، التي من المتوقع أن تستغرق أسابيع قليلة. ومعروف أن هاتين الدولتين اشتهرتا بالحياد، بين المعسكرين الروسي والأمريكي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتعتبر حرب روسيا ضد أوكرانيا الدافع المباشر الرئيس لانضمامهما للحلف. كما أنه المحفز الرئيس لقبولهما بالحلف. ولطالما حاول الحلف ضمهما إليه، منذ انضمام النرويج له.
قالت رئيسة وزراء فنلندا، في هذه المناسبة: «لا يمكننا أن نشعر بعد الآن بمستقبل سلمي بجانب روسيا. لهذا السبب، اتخذنا قرار الانضمام إلى الناتو». ورحب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بطلبي الانضمام، قائلا إنه: «سيعزز تعاوننا الدفاعي». وبالطبع، تعارض روسيا انضمام الدولتين، وتوسع ناتو شرقا نحو حدودها الغربية. ووصف الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» إنهاء فنلندا لحيادها بأنه «الخطأ الكبير». بينما حذر وزير دفاعه «سيرجي شويغو» من إتمام هذا الانضمام، معتبرا إياه «تهديدا خطيرا لروسيا»، يستوجب إعداد خطط عسكرية روسية، للتصدي له.
وقال الأمين العام للحلف «ينس ستولتنبرغ»، بعد تسلمه طلبي الانضمام: «إن الطلبين هما خطوة تاريخية. وإن الدولتين هما أقرب شريكين للحلف». ومعروف، أن تركيا، عضو الحلف، تعارض انضمام الدولتين، باعتبار أن كلا منهما تؤوي زعماء «منظمات إرهابية» (تقصد بعض زعماء حزب العمال الكردي المعادي لتركيا). ولكن، من المتوقع أن يتم التغلب على المعارضة التركية، وتضم الدولتان للحلف، قريبا. علما بأن انضمام أي عضو جديد يتطلب تصويت أعضائه بالإجماع.
وسبق أن نشب، خلال الحرب العالمية الثانية، بين الاتحاد السوفييتي (روسيا) وفنلندا ما سمي بـ «حرب الشتاء»، وتمخض عنه فقدان فنلندا لبعض أراضيها المتاخمة لروسيا. وفي نهاية الحرب، أبرمت اتفاقية سلام جعلت فنلندا، التي ترتبط مع روسيا بحدود تبلغ 1300 كيلو متر، محايدة، حتى الآن. أما السويد، فلا ترتبط بحدود مباشرة مع روسيا. وبانضمام هاتين الدولتين، سيبلغ إجمالي الناتج المحلي لدول ناتو ما يعادل 27.6 ضعف الناتج المحلي لروسيا، بعد أن كان 27 ضعفا، قبل انضمامهما. ويبلغ عدد سكان أعضاء ناتو مجتمعين ستة أضعاف سكان روسيا، كما جاء مؤخرا في صحيفة «واشنطن بوست».
ولا شك، أن انضمام هاتين الدولتين إلى الناتو (لأهمية موقعهما) يعتبر حدثا إستراتيجيا تاريخيا، سيغير من الجغرافيا السياسية للقارة العجوز، تغييرا يجعلها بالكامل، تقريبا، في الخندق الأول في صراع القطبين. وهذا الانضمام، بالإضافة لكونه إمعانا غربيا للتوسع شرقا، والاقتراب من مركز الثقل السكاني والإستراتيجي الروسي، فإنه يعني تصعيدا غربيا حادا، يرفع درجة احتمال الاصطدام المباشر، في حرب تدمر الجميع، وستكون أوروبا أول ضحاياها.