الرئيسية / الرئيسية / Project Syndicate: الحرب والسلام بعد التحول الأعظم في الصين

Project Syndicate: الحرب والسلام بعد التحول الأعظم في الصين

بقلم: أندرو شنغ

الشرق اليوم- عفى الزمن على عقلية الحرب الباردة، ويفشل الرأي القائل بضرورة احتواء القوى الصاعدة في التعبير عن الدروس المستفادة من حربين عالميتين دارت رحاهما لكبح تقدم قوتين وطنيتين صاعدتين (ألمانيا واليابان)، لكن منافسة اليوم تدور بين قوتين صاعدتين كل منهما بحجم قارة، وتمتلكان التكنولوجيات النووية وتكنولوجيات أخرى قادرة على إحداث قدر متزايد من الدمار.

في كتاب الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريش أوغست فون هايك الكلاسيكي المنشور عام 1944 بعنوان “الطريق إلى العبودية”، حذر من أن التخطيط المركزي والملكية العامة من المحتم أن يقودا المجتمعات إلى المعاناة والقمع، بل وحتى الطغيان، في حين ستعمل الأسواق الحرة بطبيعة الحال على تعظيم الرفاهية العامة، وفي العام ذاته قَـدَّمَ المؤرخ الاقتصادي الأمريكي المجري كارل بولاني في كتابه “التحول الأعظم”، صورة مختلفة تمام الاختلاف، زاعما أن قوى السوق والمجتمع مشتبكة في صراع من نوع ما: حيث يستغل الرأسماليون المجتمع من خلال الأسواق الحرة، ويقاوم المجتمع من خلال التنظيم والسياسة.

بعد ما يقرب من 80 عاما على صدور هذين الكتابين، لا تزال المناظرات حول وجهات نظر بولاني وهايك المتعارضة يتردد صداها في أروقة السلطة في بكين وواشنطن، وفي حين تبنى الغرب في الأساس نظام هايك الليبرالي القائم على الأسواق الحرة والديموقراطية، اتبعت الصين في عموم الأمر “التحول الأعظم” الذي تناوله بولاني، لتصبح الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم (على أساس تعادل القوة الشرائية) وتكاد تقضي على الفقر المدقع. بطبيعة الحال، ما كان تحول الصين الأعظم ليصبح في حكم الممكن في غياب الانفتاح الاقتصادي والإصلاحات الموجهة نحو السوق، ولعقود من الزمن، أدت الولايات المتحدة دورا بالغ الأهمية في تمكين وإدامة هذه العملية، وخصوصا من خلال تهيئة الظروف التي سمحت بازدهار العولمة، كما عملت التكنولوجيا، والقوة العسكرية العاتية، والدبلوماسية الأميركية على تعزيز الأمن العالمي- لا يُنكر إلا قِـلة من الناس عائد السلام المتمثل في إمكانية الحد من الفقر- في حين ساعد الدولار الأميركي المستقر في تسهيل التبادل الدولي.

انخرطت الولايات المتحدة مع الصين بشكل مباشر، وقد جلب هذا فوائد بعيدة المدى، من المساعدة في إنهاء الحرب الباردة إلى المساهمة في التقدم في مكافحة تغير المناخ، وفي الوقت ذاته، ساعدت الديناميكية الاقتصادية في الصين، إلى جانب انخراطها العميق في الاقتصاد العالمي، في حفز النمو العالمي والحد من تداعيات صدمات مثل الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008.

لم تكن الصين وحدها التي شهدت تبلور القضايا التي طرحها بولاني، فالواقع أن اقتصادات ناشئة كبرى مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل تناضل في محاولة التغلب على العواقب التي خلفتها إخفاقات السوق، مثل التفاوت في الدخل والثروة، والتلوث، وخسارة التنوع البيولوجي، والاحتباس الحراري الكوكبي، وفي حين تخلق السيطرة الحكومية المفرطة مشاكل خاصة بها- وهي النقطة التي اتفق علها هايك وبولاني- فإن أقل القليل من الناس قد يجادل في قدرة الدولة على الحد من انتهاكات السوق، والتصدي للعوامل الخارجية السلبية، وتلبية توقعات الناس بشأن الأمن والرخاء.

الواقع أن فشل الدولة في معالجة إخفاقات السوق وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، كما حذر بولاني، يُـفضي عادة إلى ردة فعل سياسية سلبية عنيفة، وقد يؤدي هذا إلى ضمور الدولة أو حتى انهيارها، كما حدث مع الاتحاد السوفياتي. وعلى هذا، يبدو من الواضح أن قدرة الدولة لا تقل أهمية عن قدرة السوق.

السؤال الأكثر إثارة للجدال هو كيف يمكن ضبط سلوكيات السوق ومنع انتهاكات الدولة، حيث تعمل الأنظمة المختلفة على إيجاد التوازن الذي يناسبها، فيركز نظام الحكم في الصين على تسليم نتائج جوهرية ملموسة لغالبية السكان من خلال آلية مساءلة ذات توجه إداري، ومن منظور غربي، يختلف هذا جوهريا عن الديموقراطية الانتخابية، التي تؤكد على القواعد القانونية والإجرائية والحقوق الفردية، وهي بالتالي غير مقبولة.

تقطع هذه الاختلافات شوطا طويلا نحو تفسير السبب وراء إثارة التحول الأعظم في الصين لمثل هذا القدر من الاستجابة السلبية من جانب القوى الغربية، التي تجنبت في السنوات الأخيرة المشاركة والتعاون الوثيق، لصالح المنافسة والمواجهة والاحتواء، حيث إن مكمن الخطر هنا يتمثل في تسبب استخدام وسائل الإعلام والتكنولوجيا والتمويل والتجارة وغير ذلك من مجالات التعاون السابقة كسلاح في إشعال شرارة تصعيد حتمي للتوترات، مما يؤدي في النهاية إلى الحرب.

على نحو مماثل، كلما زاد القدر الذي توجهه الهند وغيرها من القوة الصاعدة من الاهتمام والموارد والقدرات نحو الأمن الوطني والدفاع، قَـل ما يمكنها تكريسه للتنمية الاقتصادية المحلية والاندماج في الاقتصاد العالمي، وهذا من شأنه أن يضعف العلاقات القائمة على السوق والتي قدمت الكثير لدعم السلام على مدار العقود العديدة الأخيرة، ولأن الصين والهند وإندونيسيا ربما تصبح بين أكبر خمسة اقتصادات في العالم بحلول عام 2050، في حين تشكل حاليا 40% من سكان العالم وما يقرب من 175% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي (مع تعادل القوة الشرائية)، فمن الأهمية بمكان أن يجري التفاوض على نظام جديد متعدد الأطراف لمنع اندلاع صراعات كبرى.

لقد عفا الزمن على عقلية الحرب الباردة، ويفشل الرأي القائل بضرورة احتواء القوى الصاعدة في التعبير عن الدروس المستفادة من حربين عالميتين دارت رحاهما لكبح تقدم قوتين وطنيتين صاعدتين (ألمانيا واليابان)، لكن منافسة اليوم تدور بين قوتين صاعدتين كل منهما بحجم قارة، وتمتلكان التكنولوجيات النووية وتكنولوجيات أخرى قادرة على إحداث قدر متزايد من الدمار، فقد أدرك بولاني أن التحول الجهازي ينطوي على توازن بين طلب غير محدود وموارد محدودة، والحل إما الحرب التي من شأنها أن تعجل بدمار كوكب الأرض وزوال الجنس البشري، أو السلام وبقاء الإنسان من خلال تكامل كل البلدان في نظام عالمي متوازن.

إن تجنب حالة مفرطة من انعدام الاستقرار داخل البلدان أمر بالغ الأهمية لإيجاد مثل هذا التوازن المستقر بين القوى، لهذا السبب، تُـعَـد الدعوات الغربية المطالبة بتقرير المصير في أماكن مثل شينغيانغ وهونغ كونغ وتايوان منافية للعقل والحكمة. وليست الصين وحدها التي تواجه مثل هذه الضغوط، ففي الشهر الماضي استشاطت حكومة الهند غضبا عندما اعترفت الجمعية العامة في ولاية كونيتيكت الأميركية رسميا بذكرى إعلان استقلال السيخ، وبالتالي فقد أظهرت الدعم فعليا لولاية مستقلة داخل الهند.

من غير الواقعي مطالبة جميع الدول بالاتفاق على الأولويات والأنظمة والقيم التي تتماشى جميعها مع مشورة هايك، أو بولاني، أو أي مفكر آخر، لكن هذا لا يعني الحكم علينا بأن نعيش حالة من الصراع المستمر المتصاعد، فالحق أننا قادرون على، بل يتعين علينا، أن نعمل على إيجاد أرضية مشتركة، وأن نسعى إلى المشاركة البَـنّـاءة وتقديم التنازلات في خدمة “تحول أعظم” عالمي نحو السلام والرخاء والصحة الكوكبية.

شاهد أيضاً

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

العربية- هدى الحسيني الشرق اليوم– يقول أحد السياسيين المخضرمين في بريطانيا، المعروف بدفاعه عن حقوق …