بقلم: سميح صعب – النهار العربي
الشرق اليوم- الصراع يدور في الغرب حالياً بين مدرستين: الأولى تدعو إلى عدم الذهاب في المواجهة الدائرة في أوكرانيا إلى الحد الذي تشعر به روسيا بالإذلال، والثانية تدعو إلى انتهاز الفرصة المتاحة الآن، لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، بحيث لا تعود قادرة في المستقبل المنظور على شن حروب على جيرانها.
المنادون بعدم إذلال روسيا، وبينهم سياسيون حاليون وسابقون وأكاديميون، يرون أن تدمير روسيا سيولد روح الانتقام عند الروس، فضلاً عن أن الرئيس فلاديمير بوتين قد يقدم على استخدام السلاح النووي إذا ما رأى أن الهزيمة المدوّية تلوح في الأفق، كما أنه لن يسمح للغرب بتحويل أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى، في وقت يجتهد الروس لنسيان التجربة الكارثية في أفغانستان، وكيف قادت إلى تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف، وتتويج أمريكا على زعامة العالم. ومن أبرز دعاة تيار مهادنة روسيا وتحبيذ دخول أوكرانيا في مفاوضات مع موسكو، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأمريكي سابقاً هنري كيسنجر، فضلاً عن معلقين بارزين في وسائل الإعلام الغربية.
أما دعاة إنزال الهزيمة الاستراتيجية بروسيا فيرون أن الفرصة مواتية بعد التورط الروسي في أوكرانيا لتحقيق هذه الغاية. ومنهم من يذهب إلى حدود المطالبة بالدفع في اتجاه إسقاط بوتين نفسه أو حتى جعل روسيا تلاقي مصير الاتحاد السوفياتي، بحيث يجري تقسيمها على أساس عرقي. ويدعو هؤلاء إلى تكثيف عملية تسليح أوكرانيا بأسلحة هجومية نوعية قادرة على ضرب العمق الروسي وتسريع عملية انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
وإذا كان أصحاب المدرسة الأولى ينطلقون من فكرة أنه لا يزال في الإمكان استيعاب روسيا في أوروبا، إن هي انسحبت من أوكرانيا، فإن أصحاب المدرسة الثانية لا يتصورون أن روسيا يمكن أن تكون جزءاً من النظام العالمي، وأنه يجب تحويلها إلى دولة منبوذة تشبه كوريا الشمالية.
لا ريب في أن الحرب الروسية – الأوكرانية بقدر ما كشفت عن الارتياب الروسي بالغرب، أثبتت أيضاً أن الكثيرين في الغرب لا يريدون لروسيا أن تعود دولة قوية مرة أخرى، وأن شرط قبولها في النظام الغربي، هو أن تكون دولة مطيعة على غرار أي دولة من دول أوروبا الشرقية في ما بعد انتهاء الحقبة السوفياتية. إن أقصى ما يمكن القبول به غربياً أن تكون روسيا دولة يقودها رئيس على غرار بوريس يلتسين، وليس فلاديمير بوتين.
الغرب لن يقبل بدولة روسية شديدة الوعي بمصالحها في محيطها الجغرافي أو على النطاق الأبعد. وعندما بدأت أميركا ضم دول أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي، كانت ترى أن لحظة الصدام مع روسيا آتية لا محالة، ولذلك وجب تطويقها بالحلف. وفي المقابل، كانت روسيا التي خسرت مكانتها الدولية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تنظر دائماً بعين الشك إلى توسع الأطلسي، وترى أن المواجهة مع الغرب لم تنته يوم سقط جدار برلين وانهار الاتحاد وربحت أميركا الحرب الباردة.
كان الروس يتوجسون من أن المواجهة لم تنته بعد، وأن سقوط الاتحاد السوفياتي يبقى نصراً منقوصاً في نظر الغرب إن لم يستكمل بإضعاف روسيا نفسها أيضاً.
تكشف الحرب الروسية – الأوكرانية، أن الأعوام الثلاثين الماضية، لم تكن إلا عبارة عن هدنة بين الغرب وروسيا، وأن الصراع يتجدد اليوم دفعة واحدة، عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.
ولهذا لا تلوح في الأفق أي مبادرات لحوار أو تسوية سياسية توقف دويّ المدافع التي يتردد صداها في أنحاء العالم، منذرة بحرب أوسع لا تبقي ولا تذر، حرب قد تضع حداً للحضارة البشرية قاطبة.
لذلك، يبدو أن صوت دعاة الاستمرار في الحرب حتى “إذلال” روسيا، لا يزال مسموعاً أكثر.