بقلم: صابرة دوح – العرب اللندنية
الشرق اليوم – منعطف خطير تمر به تونس، مع تزايد الضغوط الخارجية وتصاعد حدة الصراعات السياسية بين قطبين ذكوريين بامتياز: الأول يعلن التحدي مبشرا بجمهورية جديدة لا يزال يلفها الغموض، والثاني ينازع للبقاء، رافعا شعارات من قبيل الدفاع عن ديمقراطية عرجاء، لم ير منها التونسيون سوى صخب واستعراض عضلات تحت قبة مجلسها الموقر (البرلمان المنحل).
وبين هذا وذاك تجد معظم التونسيات أنفسهن تائهات بين الخيار الأول الذي استبشرن بإعلانه خيرا يوم الخامس والعشرين من يوليو الماضي، قبل أن تصيبهن حالة من الشك والحيرة، وبين الرجوع إلى الخيار الثاني على مرارته، خشية الانزلاق نحو المحظور، ليس فقط في علاقة بالمكاسب التي حققتها المرأة على مدى عقود، بل وأيضا بشأن مستقبل البلاد ككل.
حالة الشك التي تعصف بالتونسيات اليوم، لها ما يبررها لاسيما حينما يجدن أنفسهن مغيبات ولا مكان لهن ضمن مشروع بناء الجمهورية المنشودة، التي ما كان لمنظّريها الفرصة لتجسيدها على أرض الواقع دون النضالات النسوية على مدى العشرية الماضية.
ولم يجر تعيين أيّ وجه نسائي في مختلف الهيئات واللجان الاستشارية، التي تم الإعلان عنها سواء في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المشكلة من رئيس وسبعة أعضاء، أو في اللجنة الوطنية لتأسيس الجمهورية الجديدة والتي تفرعت عنها لجنتان الأولى تعنى بالإصلاحات الدستورية والسياسية والثانية تتولى مهام الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وجميعها خالية من أيّ مشاركة نسائية.
هذا التمشي للسلطة القائمة يطرح تساؤلات تصل حد الريبة حول المقاصد الكامنة خلف هذا الإقصاء خصوصا وأن تونس تزخر بالكفاءات النسوية في مختلف المجالات العلمية والأكاديمية، كما أن الكثير منهن أبدين دعمهن لمسار الخامس والعشرين من يوليو.
البعض يجادل بأن حضور المرأة في المسار الحالي مضمون ومكرّس من خلال المشاركة النسوية البارزة في الحكومة، ويشير هؤلاء إلى أن الرئيس قيس سعيد سجل سابقة في تاريخ تونس المعاصر من خلال منحه رئاسة الوزراء لامرأة وهي نجلاء بودن، كما عين نساء أخريات على رأس وزارات مهمة مثل وزارة العدل التي تترأسها حاليا ليلى جفال.
لكن هذا الحضور من وجهة نظر الكثيرات يبقى غير كاف ودون المأمول، فالحكومة الحالية تبقى سلطة تنفيذية خاضعة لإشراف مباشر من رئيس الجمهورية في ظل الوضع الاستثنائي الذي تمر به تونس، والمرأة التونسية لها من الإمكانيات والقدرات التي تؤهلها لأن تكون مشاركة فاعلة في سلطة القرار وفي رسم صورة تونس الجديدة.
يجعل هذا الغياب أو التغييب الكثيرات ممن تحمسن لمسار الخامس والعشرين من يوليو يفضلن اتخاذ خطوة إلى الوراء، والانتظار إلى حين اتضاح الرؤية، عندها يتم البناء على الشيء مقتضاه، لاسيما وأن جزءا كبيرا منهن لا يردن الوقوع مجددا في فخ الاندفاع الذي دفعن ثمنه باهظا منذ العام 2011، حين أغفلن خطر صعود الإسلاميين.
وشاركت المرأة التونسية بقوة في المظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في نهاية العام 2010 للمطالبة بإسقاط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكانت الحقوقيات والناشطات في الأحزاب والمجتمع المدني في صدارة المتظاهرين، ومن بينهن على سبيل الذكر لا الحصر الحقوقية راضية النصراوي والناشطة المدنية الراحلة لينا بن مهنى.
ومع صعود تيار الإسلام السياسي إلى المشهد في العام 2012، لاسيما بعد نجاح حركة النهضة في الفوز بالانتخابات التشريعية والتي فتحت المجال على مصراعيه لنشاط تنظيمات إسلامية أكثر راديكالية بينها تنظيم أنصار الشريعة وحزب التحرير، كانت المرأة التونسية سباقة في التصدي لهذا التيار المنبت، والذي روّج لأفكار دخيلة على المجتمع التونسي وفتح قضايا هوياتية لم تطرح من قبل.
وخاضت المرأة التونسية العديد من المعارك مع هذا التيار الذي عمل على التسويق لمشاريع هدامة استهدفت على نحو الخصوص مجلة الأحوال الشخصية (1956) التي شكلت بمثابة دستور يكرس حقوق المرأة التونسية ومبدأ المساواة مع الرجل.
لم تقتصر نضالات نساء تونس فقط على الدفاع عن حقوقهن لا بل إنهن كن في الصفوف الأمامية في مواجهة محاولات العبث بالدولة والنيل من سيادتها، من خلال التصدي لاتفاقيات مشبوهة مع بعض القوى الخارجية، ولنشاطات جمعيات واتحادات إقليمية تعمل تحت عناوين براقة لكن غاياتها ضرب طبيعة المجتمع التونسي.
هذه النضالات التراكمية للمرأة التونسية ساهمت بشكل كبير في تعبيد الطريق أمام المسار الحالي، فالنساء خرجن احتفالا بإطلاقه ليل الخامس والعشرين من يوليو بعد إعلان رئيس الجمهورية عن إجراءات تعليق العمل بالبرلمان وإقالة حكومة هشام المشيشي متحديات حينها الحظر المفروض بسبب جائحة كورونا.
خطوة الرئيس آنذاك كانت بمثابة انتصار لجهودهن، وإيذانا بمرحلة جديدة، لكن هذه النشوة بدأت تتحول إلى إحباط في ظل بطء الإجراءات اللاحقة خصوصا في ما يتعلق بالمحاسبة، إلى جانب التدهور الاقتصادي الحاصل الذي بات يهدد باضمحلال الطبقة المتوسطة، ويلقي بالمزيد إلى حافة الفقر.
في المقابل تظهر مؤشرات عن توجّه نحو المزيد من التشدد في التعاطي مع الفضاء السياسي من خلال عمليات التضييق على بعض القوى الوطنية التي ساهمت بشكل كبير في مسار الخامس والعشرين من يوليو على غرار الحزب الدستوري الحر وزعيمته عبير موسي، الأمر الذي يسعى أقطاب المنظومة السابقة وفي مقدمتهم حركة النهضة لتوظيفه ضمن معزوفة “المظلومية” الموجهة إلى الخارج، ومساعي توسيع دائرة خصوم الرئيس.
وفي خضم هذا المشهد تفضل الغالبية من نساء تونس الانكفاء والاكتفاء بالمشاهدة ومراقبة مآلات الأمور حيث أن منح صك على بياض لرئيس الجمهورية قد يأتي بما لا يحمد عقباه، كما أن دعم الفريق المقابل الداعي إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء خيار مميت، سيجهض على ما تبقى من أحلام بجمهورية جديدة تعيد الدولة إلى سكة البناء.
ومن التونسيات، وهن حتى الآن أقلية، من يفضلن الخيار الثالث: معارضة كلا القطبين.