بقلم: السفير عمرو حلمي – المصري اليوم
الشرق اليوم – يُعتبر قيام القوى الغربية بتقديم كل أشكال الدعم لأوكرانيا أمرًا مفهومًا، أمّا أن تذهب في فرض العقوبات على روسيا إلى حد الإضرار بنفسها وبأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك يُظهر حكوماتها وكأنها تولى أهمية بأوكرانيا أكثر من حرصها على التصدي للتحديات التي تواجه مجتمعاتها، التي لم تتعافَ بعد من كافة تداعيات أزمة الكورونا، فالتقارير الدولية- التي اختزلت تداعيات الحرب التي تشهدها أوكرانيا في مجرد انعكاساتها السلبية على الدول النامية، خاصة تلك المستوردة للقمح، التي يمكن أن تواجه أزمة غذاء طاحنة- يبدو أنها أغفلت التطرق بالعمق الكافي إلى تداعيات تلك العقوبات على الدول التي قامت بفرضها، خاصة أن قيام قمة دول الاتحاد الأوروبي بفرض حظر «جزئي» على الصادرات الروسية من البترول يُعد بمثابة إجراء تصعيدى إضافي لن تنحصر آثاره السلبية على الاقتصاد الروسي فحسب، إذ إنها ستمتد حتمًا إلى الدول الأوروبية ذاتها وإلى مختلف دول العالم، بعد أن تخطّت أسعار البترول حاجز ١١٥ دولارًا للبرميل، بعد أن كانت في حدود ٧١ دولارًا في سبتمبر ٢٠٢١، وسط توقعات باحتمالات ارتفاعها إلى أكثر من ١٣٠ دولارًا للبرميل في المستقبل القريب، وهو ما يتزامن مع ارتفاعات في مؤشر أسعار الغاز الطبيعي، الذي يُعد المصدر الرئيسي لتوليد الكهرباء في دول الاتحاد الأوروبي، حيث تعتمد دول الاتحاد الأوروبي في مجملها على الغاز الطبيعي الروسي بنسبة ٤١٪، وتصل تلك النسبة إلى ٤٩٪ في حالة ألمانيا، و٤٧٪ في حالة إيطاليا، و٩٥٪ في حالة المجر، و٥٤٪ بالنسبة لبولندا، إذ ارتفعت أسعاره من ٤٥ دولارًا في ديسمبر ٢٠٢٠ إلى ٢٤٤ دولارًا في إبريل ٢٠٢٢، الأمر الذي يُعزز من احتمالات دخول الاقتصاد العالمي، بما ذلك اقتصاديات القوى الغربية الرئيسية سواء الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي أو اليابان، في مرحلة جديدة من الركود، ربما أعمق من الذي شهده العالم في ثمانينيات القرن المنصرم.
واتصالًا بذلك، ارتفع معدل التضخم في منطقة اليورو إلى مستويات قياسية بلغت ٨.١٪، وسجل معدل التضخم في ألمانيا وحدها ٨.٧٪، وهو الأعلى الذي تسجله البلاد منذ أكثر من ٢٠ عامًا، كما بلغ معدل التضخم في بريطانيا ٩٪، لم تشهده البلاد منذ ٤٠ عامًا، وشهدت معدلات النمو في كافة دول الاتحاد الأوروبي ومعها بريطانيا تراجعًا ملحوظًا، كما انخفض سعر صرف اليورو مقابل الدولار إلى مستويات لم تصل إليها قيمة العملة الأوروبية الموحدة منذ أكثر من عقدين، مع ارتفاعات ملحوظة في مؤشرات الأسعار وانخفاضات متتالية في القوة الشرائية. وتزيد من تعقيد الموقف حالة عدم اليقين حيال المستويات التي يمكن أن تصل إليها أسعار مختلف مصادر الطاقة سواء من البترول أو الغاز الطبيعي أو حتى من الفحم، أو فيما يتعلق بانعكاسات الحرب التي تشهدها أوكرانيا على استقرار أسواق الصرف وعلى حجم ونوعية التحديات التي يمكن أن تواجه سلاسل الإمداد، وذلك نتيجة لغياب تصورات واقعية حول كيفية إنهاء الحرب التي من الصعوبة توقع أن تنتهي بخسارة ساحقة لروسيا، وهو ما يتزامن مع صعوبة توقع قدرة المجتمعات الغربية على مواصلة تحمل تداعيات تلك الحرب، بعد أن تستشعر أن حكوماتها تتبنى سياسة «أوكرانيا أولًا»، وذلك على حساب استقرارها ورفاهيتها، خاصة أن عددًا من تلك العقوبات يبدو self-defeating، بمعنى أن آثارها ستُلحق أضرارًا باقتصاديات الدول التى قامت بفرضها وبمجمل الأوضاع العالمية بدرجة يمكن أن تفوق الأضرار التي ستلحق بالاقتصاد الروسي، خاصة أن تلك العقوبات لن تسهم في إنهاء الحرب، ولن تدفع روسيا إلى الانسحاب طواعية من أوكرانيا قبل أن تحقق الغالبية العظمى من أهدافها الاستراتيجية من غزوها العسكري.
وقد أشار تقرير البنك الدولي، الصادر يوم ٢٤ مايو الماضي، عن حالة الأمن الغذائي العالمي، إلى ارتفاع مؤشر أسعار المحاصيل الزراعية بنسبة ٤٢٪، حيث ارتفعت أسعار الذرة بنسبة ٥٥٪، وأسعار القمح بنسبة ٩١٪ مقارنة بما كانت عليه في يناير ٢٠٢١، مع توقعات بأن تبقى الأسعار عند مستويات مرتفعة حتى نهاية عام ٢٠٢٤، حيث تشهد العديد من الدول ارتفاعًا في أسعار السلع الغذائية، بما فيها الزيوت النباتية، تُضاف إلى ذلك ارتفاعات مطردة في أسعار الأسمدة والعديد من المواد الأولية الصناعية، منها الألومنيوم والحديد والزنك والنيكل والرصاص، وتُعد الارتفاعات المتلاحقة في أسعار الغذاء، والتي تصاحبها ارتفاعات في أسعار مختلف مصادر الطاقة والعديد من المواد الأولية، من بين أهم أسباب تصاعد معدلات التضخم في مختلف دول العالم وتزايد حالة عدم الاستقرار العالمي المرجح تصاعدها مع استمرار الصدام غير المباشر الذي نشهده بين الناتو وروسيا، والذي يحول عمليًّا هدف الحرب التي نتابع أحداثها من مجرد حرب من أجل ضمان حرية أوكرانيا إلى حرب ضد روسيا ذاتها، بكل ما لذلك من انعكاسات محتملة على السلم والأمن الدوليين، قد تتطور لتجسد ما يُعرف بـ Theory of Unintended Consequences، التي يمكن أن تحول الحرب التي تشهدها أوكرانيا إلى صدام عسكري مباشر بين الغرب وروسيا.
وعلى الرغم من الحرص الذي يُبديه الاتحاد الأوروبي على تأكيد وحدة المواقف الأوروبية حيال التعامل مع روسيا، فإنه من الواضح أن دول الاتحاد الأوروبي لم تتمكن من فرض حظر كامل على الصادرات الروسية من البترول، حيث تم استثناء البترول الروسي الذي يتم تصديره عبر خط أنابيب Druzhba إلى المجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، يُضاف إلى ذلك أن عددًا من الدول الأوروبية، منها إيطاليا وألمانيا والمجر، قد وافق على سداد قيمة وارداته من البترول الروسي بالروبل خلافًا لمواقف بعض الدول الأوروبية الأخرى، وحتى مع تطبيق هذا الحظر «الجزئي» فإن إجمالي قيمة الصادرات الروسية من مختلف مصادر الطاقة إلى أوروبا يمكن أن يصل هذا العام، وفقًا لتقديرات وكالة بلومبرج، إلى ما يقرب من ٢٨٥ بليون دولار، يُضاف إلى ذلك أن دول الاتحاد الأوروبي لن تتمكن من فرض حظر على الصادرات الروسية من الغاز الطبيعى، خاصة أن توجهها إلى مصادر بديلة سواء من النرويج أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الجزائر أو قطر أو غيرها لا يمكن أن يمثل بديلًا كافيًا من شأنه أن يحل محل أو أن يحقق ما يُعرف بالـPerfect substitution للغاز الروسي.
وقد جاءت التطورات المتصلة بالقرار الذي اتخذته روسيا بحظر تصدير الغاز الطبيعي إلى بولندا وبلغاريا وفنلندا وهولندا والدنمارك لرفضها سداد قيمة وارداتها منه بالروبل، وإقدام الاتحاد الأوروبي على فرض حظر جزئي على الصادرات الروسية من البترول، وقيام بعض القوى الغربية بتزويد أوكرانيا بنوعيات متطورة من أنظمة التسلح، وتأييدها انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، لتوحي بأننا أمام أزمة ممتدة من غير المتوقع رؤية نهاية لها في المستقبل القريب، ومع استمرار الحرب دون بارقة أمل لوقف رحاها سوف تتصاعد التحديات التي تواجه كافة الأطراف المنخرطة في تلك الأزمة، بمختلف تداعياتها على مجمل الأوضاع العالمية.