بقلم: ماري ديجيفسكي –اندبندنت عربية
الشرق اليوم- لقد كان الموقف الذي لا يحسد عليه الدبلوماسيون الروس موضوع تعليقات كثيرة في الأسابيع الأخيرة، فهم منبوذون في أنحاء العالم الغربي، ويقابلون بالانسحابات [الاحتجاجية الغاضبة من قبل الآخرين]، كما يتعرضون لهجمات بالطلاء وبالبيض، لكن هناك مجموعة أخرى من الدبلوماسيين الذين يمرون بوقت صعب بالقدر نفسه تقريباً، ولمبررات أقل بكثير [من مبررات معاملة نظرائهم الروس هكذا].
يجد مبعوثو ألمانيا في الخارج بلادهم في قفص الاتهام بسبب ما يراه عديد من دول أوروبا وأميركا الشمالية على أنه تعبير غير كاف عن “روح التضامن الجماعي” من جانب مستشارهم [شولتز] في تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
وتعيد الصعوبات الدبلوماسية الحالية التي تواجهها ألمانيا تصورات الدول الغربية الأخرى لسياساتها [برلين] حيال أوكرانيا إلى المربع الأول الذي كانت فيه بادئ الأمر وكأنها دارت دورة كاملة. وقد تعرضت برلين إلى قدر كبير من اللوم والانتقاد في الفترة التي باتت معروفة بأنها كانت مرحلة الاستعداد للغزو الروسي، وذلك لأنها عرضت تقديم خوذ عسكرية فقط بدلاً من الأسلحة والذخائر التي كانت تتعهد الدول الأخرى بإرسالها. وكان التساؤل “ماذا [سترسل ألمانيا] تالياً، وسائد؟” مجرد واحد من التعليقات الساخرة التي أطلقها الأوكرانيون في ذلك الوقت.
ولكن في غضون ساعات من عبور الدبابات الروسية إلى أوكرانيا، تحولت الانتقادات إلى ثناء، فقد قلب المستشار أولاف شولتز السياسة التي اتبعتها ألمانيا على مدى زمن طويل للتعامل مع روسيا، رأساً على عقب.
وقال لموسكو، إنه لا يوجد احتمال بتدفق أي غاز عبر خط الأنابيب الروسية- الألمانية الجديدة، نورد ستريم-2، كما أطلق مراجعة عاجلة لسياسة الطاقة الألمانية، بغرض إنهاء الاعتماد على روسيا. وأعلن أن ألمانيا كانت ستزيد مساهمتها المالية في حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك قبل الموعد المقرر في الجدول الزمني، وأن برلين ستبدأ بتقديم أسلحة فعلية لأوكرانيا.
وأذن ذلك بانتشار البهجة في كل مكان. وقد قرر المستشار الألماني الذي تسلم منصبه قبل أسابيع فقط، التراجع عن 16 عاماً من العمل بذلت خلالها أنغيلا ميركل قصارى جهدها للتعامل مع روسيا، إضافة إلى سنوات من “السياسة الشرقية” التي كانت قائمة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة قبل ذلك. كان مستشاراً مبدئياً وعرف ما يجب عليه أن يقوم به، وقام به فعلاً. وقد هنأ العالم الغربي نفسه على وحدته في الدفاع عن أوكرانيا وتصميمه على مواجهة التهديد الروسي.
والآن، وبعد أن صارت الحرب في شهرها الرابع، فإن ألمانيا قد عادت تقريباً إلى النقطة التي بدأت منها، أي صار ينظر إليها من قبل حكومات غربية أخرى وكييف على أنها محاربة مترددة وفاترة القلب في وقت يجب أن يكون فيه التضامن والجرأة سيدي الموقف. وقد رفض [شولتز] أن يحذو حذو موكب القادة الأوروبيين الذين قاموا بزيارة الرئيس زيلينسكي شخصياً في كييف، ويبدو الآن متردداً من جديد هذه المرة بشأن تزويد أوكرانيا أسلحة ثقيلة هي في أمس الحاجة إليها.
وقبل ثلاثة أسابيع، قالت أنالينا بيربوك، وزيرة خارجية شولتز، كلاماً جيداً، كما زارت كلاً من كييف والموقع الذي شهد ارتكاب الفظائع الروسية في بوتشا. وألقت كلمة في البوندستاغ (البرلمان) في وقت سابق من هذا الأسبوع، اتهمت فيها روسيا بمحاولة “تدمير الحضارة” في دونباس، داعية ألمانيا إلى إرسال مزيد من المدافع والطائرات المسيرة وأسلحة الدفاع الجوي إلى أوكرانيا.
من جانبه، عاد شولتز من اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي في بروكسل، حيث طمأن زملاءه القادة بشأن دعم ألمانيا الكامل لأوكرانيا، لكن بالنسبة لكثيرين لا تزال هناك فجوة بين أقوال ألمانيا وأفعالها، وإرادة شولتز السياسية هي مرة أخرى موضع تساؤل.
هذا هو الإجماع الراسخ، لكن حان الوقت للتساؤل عن مدى عدالة هذا النقد. وهل تمتنع ألمانيا حقاً عن الإلقاء بثقلها في الأزمة والعمل بالجد ذاته الذي يبديه كل المشاركين في دعم أوكرانيا، على الصعيد العسكري أو أي صعيد آخر؟ وحتى لو كانت كذلك [تمتنع عن الدعم بحماس]، فهل يمكن أن يعبر ذلك عن قرار حكيم من جانب الحكومة الألمانية، أكثر حكمة مما يمارس حالياً في بعض العواصم الغربية، ويمكنه أن يضع الحكومة الألمانية في موقف جيد في الأيام المقبلة؟
ينبغي النظر إلى أفعال ألمانيا في سياق ما يحصل على الأرض في أوكرانيا، أي ما يحدث فعلاً هناك، وليس ما نتمنى حدوثه.
من الواضح أن تقييمات الحرب قد أجريت حتى الآن في ثلاث مراحل، الأولى كانت وجهة النظر التي تكاد تكون صريحة تماماً في العالم الغربي (وربما في الكرملين أيضاً) بأن روسيا ستجتاح أوكرانيا، وستهرب حكومة كييف، وسينتهي الأمر كله في غضون أسبوع، وقد يكون الغرب في موقع القادر على المساعدة في التعامل مع النتائج ومن ثم التفاوض على صفقة ما.
أما الثانية، فكانت الإعجاب المفاجئ بالرئيس الأوكراني ومقاومة شعبه، الأمر الذي أذكى وجهة نظر متنامية في واشنطن وفي بعض أجزاء أوروبا وأحياناً في كييف، بأن أوكرانيا قد تتمكن فعلاً من الفوز، وليس فقط من العودة إلى الوضع الراهن قبل غزو روسيا في 24 فبراير (شباط)، بل أيضاً من استعادة كل دونباس وشبه جزيرة القرم زيادة على ذلك. ومعها بدأ مسؤولون أميركيون في التلميح إلى إزاحة فلاديمير بوتين والهدف المتمثل في إضعاف روسيا، وترقية العمل الذي كان عبارة عن دفاع عن أوكرانيا إلى مستوى حرب بالوكالة ضد روسيا.
وقد بدأت المرحلة الثالثة للتو، وهي اعتراف باهت بأن روسيا قد تكون في بداية الطريق لتصير صاحبة اليد الطولى، وماذا حينها؟ يعتمد ذلك في جزء منه على الأهداف الروسية للحرب، والتي يمكن أن تكون احتلال أو ضم منطقة دونباس بأكملها، ولكنها قد تكون أيضاً إنزال الهزيمة الكاملة بأوكرانيا. وهذه هي النقطة التي تقف عندها الحرب حالياً وهي تمثل معضلة ليس بالنسبة إلى أوكرانيا فقط بل إلى جميع حلفائها الغربيين.
إن وجهة نظر الغالبية هي امتداد منطقي لما حصل حتى الآن [والذي يفيد بأن] من الضروري إمداد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة الثقيلة، والأطول مدى والأكثر دقة، كي تستطيع أن تتصدى للهجوم الروسي الحالي. وينطوي هذا على افتراض بأن الأسلحة ستكون في أيد أمينة، وأنها ستمكن أوكرانيا من تغيير مسار الحرب، وأن عودة إلى الوضع الراهن قبل 24 فبراير، ستظهر من جديد على الأجندة كتسوية ممكنة.
لكن ماذا لو لم يكن هذا هو ما يحصل حقيقة، أو دعنا نقول بشكل أكثر قسوة، ماذا لو لم يشترك حلفاء أوكرانيا جميعاً في هذا الافتراض؟ يقال إن الرئيس بايدن أجاز، بعد بعض التردد، إمداد أوكرانيا بالأسلحة الطويلة المدى التي أرادتها، لكن ليس من الواضح كم سيكون قريباً موعد وصول هذه الأسلحة إلى أوكرانيا، أو كم سيصل منها.
وبوريس جونسون، الذي صار أخيراً كبير المشجعين لزيلينسكي، قد طرح في نهاية الأسبوع الماضي ملاحظة جديدة تدعو إلى الحذر، حين قال إن روسيا “تحقق تقدماً بطيئاً، لكنه كما أخشى تقدماً ملموساً” حتى في الوقت الذي رفض فيه فكرة أن كييف يجب أن تتحدث إلى “التمساح”.
وبينما توصل الزعماء الأوروبيون إلى تسوية حافظت على مسحة من الوحدة حول فرض عقوبات جديدة في مجال الطاقة على روسيا، فإن هذه لم تكن القصة كلها. ولم يشترك الجميع بأي حال من الأحوال في الحماس من أجل تسريع انضمام أوكرانيا (ومولدوفا وجورجيا) إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان هناك ما هو أكثر من التذمر حول الحكمة من استمرار أوكرانيا في القتال أو عدمه، وكان الزعيم الإيطالي ماريو دراغي أحد المشككين [في الحكمة من مواصلة القتال]. وأجرى ماكرون وشولتز مكالمة هاتفية مشتركة مع بوتين، في محاولة لإبقاء القنوات مفتوحة، الأمر الذي تم شجبه بحدة من قبل رئيس لاتفيا وآخرين.
ومع ذلك، لا يبدو المستشار الألماني، في هذا السياق، ضعيفاً أو معزولاً كما يوصف في كثير من الأحيان. ولألمانيا أيضاً مصالحها الخاصة التي يجب أن تدافع عنها. ولدى شولتز ائتلاف ينبغي أن يحافظ عليه متماسكاً، وشعب يجب أن يبقيه دافئاً وآمناً وقادراً على الوصول إلى الغذاء. إن من السهل التشهير بنفور ألمانيا من الحرب.
وإن من السهل، على وجه الخصوص بالنسبة إلى هذه الدول، مثل المملكة المتحدة ودول الكتلة السوفياتية السابقة التي تقول إن صحة غرائزها المتشددة حيال روسيا قد ثبتت، أن تجادل بأن خفض إمدادات الأسلحة الآن والدعوة إلى إجراء مباحثات سيكونان بمنزلة “استرضاء” للمتنمر، لكن ماذا لو كان البديل هو خسارة أوكرانيا مزيداً من الأراضي إضافة إلى ما فقدته في عام 2014، وماذا إذا كانت الطريقة الوحيدة لمنع ذلك تتمثل في مهاجمة الناتو روسيا مباشرة؟
وبعيداً من كونه خجولاً أو مخطئاً، قد يكون المستشار أولاف شولتز عقلانياً ومصيباً، على المستويين الألماني الوطني والأوروبي على حد سواء، وواحداً من القلائل الذين ينظرون بصدق إلى ميزان القوى الحالي ويدركون أن أوكرانيا قد تتضرر أكثر باستمرارها في القتال [فيعملون على] التحضير للمباحثات التي يجب أن تجرى بالتأكيد.