بقلم: راغدة درغام – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم– لافت ما يحدث للعلاقة بين الطاقة والعقيدة في الحسابات الاقتصادية والسياسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما يدور في فلك رد الاعتبار واستعادة المكانة الدولية، كما تتداولها الأوساط الروسية الرسمية في زمن العزلة الناتجة من حرب روسيا في أوكرانيا. عنوان التداخل بين الأمرين هو مفاوضات فيينا الرامية إلى إحياء الصفقة النووية JCPOA بين إيران والولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، والتي بموجبها تُرفع عقوبات عن طهران.
تعثّرت هذه المفاوضات التي كانت الأطراف تأمل تتويجها باتفاق مع نهاية شهر أيار (مايو)، لكنها ما زالت حيّة، بالرغم من الانطباع بأنها وصلت إلى حائط مسدود بسبب إصرار طهران على شطب “الحرس الثوري” من لائحة الإرهاب واتخاذ الرئيس الأميركي جو بايدن قراره برفض الطلب الإيراني، كما أكد لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت.
الحاجة إلى النفط الإيراني للتعويض عن قرار الاستغناء الأوروبي عن النفط الروسي باتت عنصراً رئيسياً في اعتبارات جميع اللاعبين في مفاوضات فيينا، بمن فيهم روسيا، وذلك بعدما غيّرت حرب أوكرانيا قوانين اللعبة. فإدارة بايدن تحتاج أسعار وقود تحتوي أي غضب للناخب الأميركي قبل تشرين الثاني (نوفمبر) لأن الأميركيين يحكمون على حكومتهم من خلال محطات البنزين. الحكومات الأوروبية في أشد الحاجة للنفط الإيراني وهي تضغط على واشنطن كي تتنازل، مشيرة إلى أن أوروبا لبّت أميركا في اتخاذ قرار مقاطعة النفط الروسي، والغاز أيضاً قريباً. الصين تستفيد تماماً من صفقة فيينا بالذات لجهة تدفّق النفط الإيراني إليها. والمثير للانتباه هو أن روسيا لا تعارض، بل إنها ترى أن موافقتها على تمرير الصفقة الغربية – الإيرانية، بالرغم من أضرارها النفطية والاقتصادية، تردّ للرئيس فلاديمير بوتين الاعتبار كلاعب دولي وتكسر عزلة روسيا. أما إيران، فإنها تبدو جاهزة لترتيبات مرحلية وموقتة تضمن لها رفع العقوبات عنها لتيسير مبيعاتها النفطية لإنقاذ اقتصادها وإسكات غضب شارعها. ولذلك فإنها تلمّح إلى أنها قد تكون جاهزة لتأجيل البتّ بإصرارها على شطب “الحرس الثوري” عن قائمة الإرهاب ضمن رزمة تفاهمات بمراحل، تعطي الأولوية للنفط والاقتصاد لكن دون التخلّي عن محورية عقيدة النظام ومركزية “الحرس الثوري” فيه.
بعض المقرّبين من التفكير داخل بوتقة النظام في طهران بدأوا يطرحون أفكار الترتيبات الانتقالية والمرحلية والموقتة interim provisional للتغلّب على عقدة “الحرس الثوري”، وكذلك عقدة إصرار إيران على ضمانات أميركية بعدم العودة عن اتفاق جديد، كي لا تتكرر تجربة إلغاء الرئيس السابق دونالد ترامب الاتفاقية النووية بين إيران والرئيس الأسبق باراك أوباما.
لا تراجع في هذه الأطروحات عن المطلبين الإيرانيّين، وإنما فيها تفهّم لظروف الرئيس بايدن لدى الكونغرس لجهة الضمانات، ولصعوبة تراجعه عن تعهّده لرئيس الوزراء الإسرائيلي في شأن “الحرس الثوري”. ولذلك، بين طيّات الأطروحات هناك تلميح إلى احتمال موافقة طهران على وضع الأمور المختلف عليها في سلّة المرحلة اللاحقة، بينما يتم تنفيذ ما يُتّفق عليه الآن في سلّة الأولويات. وفي الطليعة التزام إدارة بايدن الرفع الكامل للحظر على مشتريات إيران النفطية وللعقوبات على المؤسسات المالية والبنك المركزي، مقابل توقّف إيران عن تخصيب اليورانيوم، وربما التساهل قليلاً مع إصرار الولايات المتحدة على برنامج رقابة أفضل للبرنامج النووي الإيراني عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA.
خبير السياسة الأمنية والنووية في جامعة برنستون، سيد حسين موسافيان، الذي يسوّق لهذه الأفكار كتب قائلاً إن هناك اتفاقاً أميركياً – إيرانياً بعد سنة من المفاوضات على “تصميم الرقصة” حول كيفية عودة الولايات المتحدة وإيران إلى الاتفاقية النووية، وإن ظروف الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) تقتضي تفهّم العراقيل الموقتة. وبالتالي إن “الصفقة الانتقالية من شأنها أن تُنقِذ الاتفاق، وقد توفّر الأساس لالتزامٍ كامل من الطرفين ما بعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني. رأيه أنه في غياب إمكان إحياء الاتفاق النووي كاملاً، “الصفقة المرحلية ستكون خياراً أفضل من احتمال الحرب”. وحرص موسافيان على الإشارة إلى “حرب الظل” القائمة “لسنوات بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران براً وبحراً وجواً وفي الفضاء السيبراني”.
لعلّ نبرة وفحوى ما قاله المبعوث الأميركي إلى المفاوضات النووية مع إيران، روبرت مالي، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ قبل أسبوعين، هو الذي أيقظ صنّاع القرار في طهران إلى ضرورة الاستدراك ورمي أفكار جديدة. فهو تحدّث عن وجود “علامة استفهام ضخمة” حول فرص التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي، واعتبر أن احتمالات نجاح المفاوضات في فيينا أقل من احتمالات فشلها. روبرت مالي لا يتحدّث، تقليدياً، بلغة تشاؤمية، بل يصرّ دائماً على هدف إنجاح المفاوضات في فيينا. كلامه أيقظ الإيرانيين إلى احتمال انتهاء مفاوضات فيينا بلا نتيجة، أي إلى عدم رفع العقوبات عن إيران، وفي ذلك كارثة اقتصادية وعواقب سياسية على طهران. دقّ مالي ناقوس الخطر، وحرص على القول في الوقت ذاته إن إدارة بايدن لا تزال تأمل التوصل إلى اتفاق في فيينا.
من الناحية الاقتصادية والمالية، إن أي اتفاق في فيينا هو لمصلحة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فمال النفط اليوم أهم من العقيدة السياسية التي قد يقرّر رجال طهران “تنويمها” موقتاً ريثما تستعيد إيران قدرتها المالية ونهضتها الاقتصادية، ثم لاحقاً تحيي العقيدة وأدواتها والتزاماتها الإقليمية بزخم أكبر.
أي أن طهران قد ترضى بعدم الإصرار حالياً على حذف “الحرس الثوري” من قائمة الإرهاب، وقد تتخذ قرار لجم نشاطات “الحرس الثوري” الإقليمية المباشرة منها وتلك عبر وكلائه مثل “حزب الله” في لبنان. هذا موقتاً ومرحلياً كوسيلة إثبات نيات، بدلاً من الضمانات التي سعت وراءها إدارة بايدن والحكومات الأوروبية في شأن السلوك الإقليمي، وفي طليعتها عقيدة “الحرس الثوري” ونشاطاته. إيران رفضت تقديم تلك الضمانات، وهي تفكّر اليوم بتحسين السلوك كأمر واقع، مرحلياً وموقتاً للطمأنة مقابل رفع الحظر عن مبيعات إيران النفطية ورفع العقوبات عن مؤسساتها المالية بصورة دائمة.
طهران تتّكل على الضغوط الأوروبية لدفع إدارة بايدن إلى الموافقة على الصفقة المرحلية، انطلاقاً من أن إيران قادرة على تعويض أوروبا عن النفط الروسي وبسعر أفضل. المعادلة بسيطة: أموال سريعة وغزيرة لإيران عبر بيع نفطها لأوروبا بسعر أرخص، قد يكون في حدود 65 دولاراً للبرميل؛ استفادة أوروبية فورية من توافر النفط البديل من النفط الروسي؛ استفادة إدارة بايدن من انخفاض أسعار النفط وتدفّقه بدلاً من ارتفاعه، بما يؤدّي إلى تذمّر الناخب الأميركي هذا الخريف؛ استفادة الصين من رفع العقوبات عن نفط إيران ومؤسساتها المالية. لكن ماذا عن روسيا؟
روسيا ستكون خاسرة مالياً ومادياً إذا تم رفع الحظر عن النفط الإيراني، فيما تنفّذ أوروبا برنامج حظر على النفط الروسي. فعودة إيران إلى سوق النفط مُكلِفة مالياً لروسيا. ولكن، حسبما أكدت مصادر روسية مطّلِعة على التفكير في موسكو، أن روسيا والرئيس فلاديمير بوتين في أشدّ الحاجة إلى “نصر سياسي جدّي يسمح لبوتين بأن يبدو لاعباً مهماً على الساحة الدولية”، وهذا متوافر له في صفقة فيينا.
“فقط محادثات فيينا من شأنها أن تؤمّن لبوتين نصراً سياسياً”، تقول المصادر. ذلك أنه في حال نجاحها، يمكن لبوتين القول إنه لو لم يسمح بالنجاح لكان فشل فيينا حتمياً. بذلك يمكن لبوتين استخدام نجاح مفاوضات فيينا كنقطة انطلاق نحو استعادة دوره، ليس فقط كلاعب جدّي على الساحة العالمية، بل أيضاً في إطارٍ استراتيجي ثلاثي مع الصين وإيران، وفي إطارٍ ثنائي مع إيران، عسكرياً ونفطياً.
فلاديمير بوتين يحتاج إلى تحرير إيران من العقوبات لتنفيذ أحلامه بترويكا ثلاثية تضم روسيا والصين وإيران. قد يكون غائباً عن الواقع والواقعية في هذا التفكير، لكن فلاديمير بوتين ما زال مقتنعاً بأن انتصاره في أوكرانيا وارد جداً، وأن الغرب سيتراجع عن إجراءاته ضده وضد روسيا. حتى وإن لم يتراجع الغرب، فما زالت الترويكا في نظر فلاديمير بوتين واردة استراتيجياً.
أما ثنائياً مع إيران، فالرئيس الروسي مقتنع بأن تحرير إيران من العقوبات وحصولها على الأموال الباهظة من المبيعات النفطية سيمكّنانها من دفع الأموال لروسيا، مقابل صفقات الأسلحة الضخمة بينهما. هذا إلى جانب ثقته بالعلاقة الميدانية التحالفية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووسائل القفز على العقوبات ضد أحدهما.
ما قد تعتمده الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإنقاذ مفاوضات فيينا هو مبدأ خذ وطالب Pocket it، أي ضمان الانتصار الاقتصادي عبر العودة إلى أسواق النفط، ثم لكل حادث حديث. ففي العودة الإيرانية النفطية فوائد عديدة لأوروبا، وفي طليعتها الفوائد النفطية. فأوروبا لم تعد تعتبر إيران مصدر تهديد لها، ولذلك هي على أهبة الاستعداد لإتمام الصفقة النووية النفطية.
إدارة بايدن ترى أن العودة الإيرانية إلى أسواق النفط ستؤدّي بالدول الخليجية العربية إلى لقبول بمطالب الولايات المتحدة النفطية والعسكرية والأمنية. إنها بالطبع منشغلة بالدرجة الأولى بالحرب الأوكرانية وبتطويق روسيا، لكن إدارة بايدن تتحرّك خليجياً على أكثر من صعيد، وهي تتهيّأ للصفقة النووية/ النفطية. وطهران تبتسم.