الرئيسية / مقالات رأي / لعل تايوان تقيم يوماً تمثالاً لبوتين

لعل تايوان تقيم يوماً تمثالاً لبوتين

بقلم: سمير التقي – النهار العربي

الشرق اليوم – شكل تصريح الرئيس جو بايدن بـ”أن الولايات المتحدة سترد عسكرياً لو حاولت الصين ضم تايوان بالقوة” منعطفاً مهماً لم يترقبه البعض، بما يظهر عمق التحولات الكبرى في المقاربة الأميركية للمحيط الهادئ، منذ العقد الماضي. ورغم أن البعض كان يتوقع الموقف، لكن تخلي الرئيس بايدن عن سياسة الغموض الاستراتيجي بهذا الخصوص كان حاداً ومفاجئاً.  

تلكأت أميركا في دخول الحربين العالميتين في أوروبا شهوراً طويلة، ولم تنخرط إلا بعدما فتحت الحرب ضد اليابان.

وإذ تؤكد الصين منذ عقدين دورها في حزام الجزر حول بحر الصين وتايوان، فإنها عملت للفوز في الحرب من دون خوضها، عبر التهديد، والتسلل والإكراه الطري والإغراء السياسي. ورغم أن المخططين الأميركيين يعتبرون الصين منافساً اقتصادياً يمكن التفاهم معه حول حصته في تقسيم العمل الدولي، إلا أن هذه السياسة الصينية جعلتهم يتحسبون لمغامرة صينية.

فإلى جانب أميركا الجنوبية، تتعامل الولايات المتحدة مع الباسيفيك وبحر الصين كساحة حيوية لأمنها القومي. وإذا أبحرت الصين في مغامرة كهذه، سيترتب على الولايات المتحدة توكيد صدقيتها المهتزة أمام حلفائها، من اليابان إلى كوريا والفيليبين وإندونيسيا وسنغافورة الخ… ما سيفتح الباب أمام احتمال هيمنة الصين على طرق التجارة والملاحة في آسيا.

هذا الخط الذي رسمه تصريح بايدن لا يماثل في شيء خطوط أوباما الحمر. بل تم تذخيره حثيثاً، بموازنات كبيرة وبتعزيز المقدرات والبنى التحتية العسكرية، بل شمل الأمر انقلاباً استراتيجياً. أطلقت الدبلوماسية المدنية والعسكرية محاور متعددة لإعادة إعمار تحالفاتها، من تحالف AUKUS الذي ربط جينياً البنية الأمنية الأسترالية والبريطانية والأميركية، إلى منظمة “كواد” بين اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، إلى إلقاء جمرة أفغانستان في حضن خصومها، إلى تعزيز التحالفات العسكرية مع كوريا الجنوبية والفيليبين وفيتنام وماليزيا وسنغافورة. في حين، تعتقد الولايات المتحدة أن الصين لا تجد لها حليفاً معتبراً، إلا في باكستان.

قبل الرابع والعشرين من شباط (فبراير) 2022 حاولت الصين سبر المقدرات والردود الأميركية حول تايوان. وفي هذا المناخ شعر التايوانيون بالقلق الشديد لأسباب عديدة، أولها تصاعد التوتر مع الصين وقلقهم من تراخي التحالفات بين دول جنوب شرقي آسيا وتراجع التزاماتها المتبادلة. والأهم، قلقهم من مدى جدية الالتزام الأميركي الذي، أقل ما كان يمكن أن يقال عنه، إنه كان مضطرباً.

ثم جاءت الحماقة الكبيرة لبوتين، ليحبس التايوانيون أنفاسهم من احتمال غزو صيني متواقت. وكان لديهم كل المبررات لذلك. فكما الصين كان بوتين يقضم أوروبا والشرق الأوسط وينتصر عبر الإكراه والإخضاع المتدرج، من دون أن يدخل الحرب. لكن التجربة سرعان ما أظهرت أن بوتين لم يبدأ الخسارة إلا حين دخل الحرب. وكما الصين تجاه تايوان، تحدث بوتين عن استعادة “الوحدة التاريخية” بين روسيا وأوكرانيا كنوع من المهمة الروحية، بل وينفي الاعتراف بأوكرانيا كأمة. وكما تايوان، فإن أوكرانيا ديموقراطية شابة نسبياً، تتعايش مع جار متعسف أكبر، لديه مخططات لابتلاعها.

لكن وعلى الرغم من أوجه التشابه، يعتقد الخبراء أن مجريات المعركة الدولية حول أوكرانيا ذاتها، تستبعد احتمالات غزو تايوان في المدى المنظور، من دون أن يعني ذلك بحال، التقليل من مدى رغبة الصين في الوحدة مع تايوان. وفيما يراقب شي جينبينغ، وقيادة جيش التحرير الشعبي الصيني، عن كثب الأحداث في أوكرانيا، بحثاً عن الدروس، تبدو الحرب اختباراً واقعياً لما قد تصبح عليه تكاليف المغامرة في تايوان. وتعرف القيادة الصينية منذ الآن ما ستحمله الحرب على أوكرانيا من مخاطر كبرى على الأمن القومي والازدهار والاستقرار السياسي والتموضع الاستراتيجي القريب والمتوسط لروسيا. ولا شك في أنها أقل شهية للنزول بحبل بوتين في مغامرة مشابهة.

وإذ تستند العقيدة العسكرية الصينية، إلى العقيدة العسكرية الروسية من حيث الأساس، أوضحت الحرب الأوكرانية سقوط هذه العقيدة نهائياً في هذا العصر. فالجيش الروسي، كما السوفياتي والصيني أيضاً، جيش دبابات ومدفعية ويعتمد على التمهيد بالقصف والدفع بأعداد كبيرة من المشاة. هذه العقيدة أسقطتها وسائل الحرب الجديدة، كما أسقطت المدفعية الألمانية جحافل الخيالة الفرنسيين في الحرب الأولى.

يتكرر الدرس ذاته في البحر، حيث يتركز اهتمام الصين. فلقد ثبت بشكل مزرٍ فشل خطط البحرية الروسية، سواء في الإنزال البر-مائي أم في حماية مقدراته البحرية الثمينة. بل فشل منطق الحرب الخاطفة وفشلت هذه العقيدة في التعاطي مع مستوى التعقيد الكبير للعمليات البر-مائية، السيناريو الأساسي لأي غزو صيني مفترض. ناهيك بالفشل في إدارة جبهات متعددة المحاور وفي تحقيق التنسيق الحيوي بين مختلف صنوف الأسلحة والتنسيق المعلوماتي الآني مع حركة القوات الأرضية. كل ذلك في ظل الشلل الرئيسي المدهش للمقدرات الهائلة لسلاح الجو الروسي.

الدرس الأخطر كان الفشل اللوجستي وانهيار سلاسل التزويد والإنتاج الروسية في تأمين القتال، في حين ترتبط سلاسل التموين الصينية بالسوق العالمية بما يزيد على 78 في المئة. ليصبح السؤال: وماذا لو طالت الحرب مع تايوان.

الأهم من كل ذلك، هو تداعي المقاربات الاستراتيجية المغامرة المعادية للغرب حول تفسخه وافتقاد عزيمته وتراخيه من دون رجعة.  فلقد كانت الحرب في أوكرانيا صورة مغايرة تماماً وكانت اختباراً جدياً لعزيمة الغرب على تحمل المخاطر والأعباء تجاه التهديدات الوجودية.

وإذ يتجه الغرب السياسي لاستعادة سيادته على سلاسل التزود والإنتاج لينهي بشكل حاسم اعتماده على روسيا والصين وينهي تدفق المعرفة التقنية لهما، يقدر الخبراء أن الصين ستحتاج لعقد ونصف العقد على الأقل لاستعادة سيادتها في مجال التقنية العالية، وستحتاج لعقدين لقلب عقيدتها العسكرية ومن ثم تبدأ تعويض الثغرات التقنية الهائلة في العتاد الروسي. كل ذلك في ظل أزمات دولية تعاني منها الصين، وكساد دولي وانهيار سلاسل التزود بعد كوفيد، وبعد الأزمة الأوكرانية. والصين مستورد أساسي لهذه السلع المواد الخام.

وفي حين شكلت الحروب مدرسة للجيوش الغربية، لم تخض الصين قط حرباً جدية على الإطلاق، فخلال خمسمئة عام من تاريخها لم تخض حرباً إلا مع فيتنام ونيبال ومنغوليا وكانت نتائجها كارثية على الصين.

لذلك كله، من المستبعد جداً أن ينجرّ قادة الصين بحكمتهم التاريخية لمغامرة قريبة. وفي حين يشتري التايوانيون الوقت منذ سبعين عاماً، منحتهم مغامرة بوتين فرصة تاريخية لتنفس الصعداء، ولعلهم بعد ذلك يقيمون له تمثالاً.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …